فيدريكو غارسيا لوركا… أقاصيص عن حياته وقدره وهاجس الموت في شعره
محمد محمد الخطّابي
في الخامس من حزيران الجاري، حلّت الذكرى 118 لميلاد الشاعر الإسباني ـ الأندلسي ذائع الصيت فيدريكو غارسيا لوركا، إذ في هذا اليوم من عام 1898 كان قد ولد هذا الشاعر الذي يعتبر في نظر عدد من النقّاد الإسبان وغير الإسبان من أكثر الشعراء شهرةً وشعبيةً، ومن أكبرهم تأثيراً في الشعر الإسباني في القرن العشرين المنصرم. وكلما حلّت أو هلّت هذه الذكرى يتمّ الاحتفال بها على العموم في إسبانيا، وفي مختلف أنحاء العالم الناطق باللغة الإسبانية، وبشكلٍ خاص في «فوينتي باكيروس»، وهي المدينة الصغيرة الواقعة على أرباض مدينة غرناطة 20 كيلومتراً ، والتي كانت منذ قرن وثماني عشرة سنة مسقط رأس الشاعر لوركا في المنزل نفسه الذي أصبح اليوم متحفاً يحمل اسم هذا الشاعر، ومجمّعاً لكافة أعماله الإبداعية على اختلافها شعراً ونثراً ومسرحاً وأدباً، وفي سائر أغراض الخلق والعطاء والإبداع.
البيانو القديم الذي كان يمتلكه الشاعر، والذي سبق له أن عزف عليه قيد حياته مقطوعات، وتنويعات موسيقية رخيمة، ما زال يتوسّط أهمّ غرف هذا المنزل، الذي عزف عليه في ما بعد موسيقيون كبار إحياءّ لذكراه أمثال أنطونيو كاماريرو، وهو أحد أمهر العازفين الإسبان على البيانو اليوم في إسبانيا، كما جرت العادة أن تقرأ قصائد لوركا المعروفة بمشاركة عدّة شعراء إسبان معاصرين منهم الشاعر أنطونيو كاربخال الحائز الجائزة الوطنية الإسبانية للشعر، الذي شارك أكثر من مرّة في إحياء هذه الذكرى التي تعيد إلى الأذهان المكانة المرموقة التي أدركها لوركا في عالم الخلق والإبداع. ويضمّ هذا المنزل/المتحف عدداً من المخطوطات الشعرية الأصلية وكتابات بخط يده، فضلاً عن بعض صوره ورسوماته ورسائله وحاجياته.
وكثيراً ما يتمّ الاحتفال بهذه المناسبة كذلك في مدينة نيويورك حيث تحيي الأوساط الثقافية التي تعنى باللغة الإسبانية وآدابها هذه الذكرى كلّ سنة تكريماً للشاعر فيدريكو غارسيا لوركا، الذي خلّد هذه المدينة العملاقة في ديوانه الشهير «شاعر في نيويورك». قال لوركا في قصيدة له بعنوان «وداع»: «إذا متّ فاتركوا باب الشرفة مفتوحاً». وخلال إحياء هذه الذكرى في عدد من المناسبات ترك باب الشرفة مفتوحاً كما كانت رغبة ذلك الشاعر الراحل. ومن الأسماء التي لم تغب قطّ عن هذه التظاهرة الشعرية الاستحضارية المؤثّرة من الأدباء والشعراء الأميركيين الذين يعنون بالثقافة الإسبانية وآدابها جون جيورنو وترايسي . ك. سميث والمغنّية باتي سميث، فضلاً عن مشاركة مثقفين، ونقّاد وشعراء، وأساتذة جامعيين متخصّصين أميركيين آخرين بقراءة بعض قصائده التي كتبها خلال إقامته في نيويورك، وتحليلها، وتسليط الأضواء على مضامينها ومعانيها ورموزها وجمالياتها.
وبتعاون بين «مؤسّسة فيديريكوغارسيا لوركا» الإسبانية التي تعنى بتراثه الشعري، و«المكتبة العامّة لمدينة نيويورك»، كان قد تم ّمؤخراً تنظيم معارض كبيرة حول كتب لوركا ودواوينه، ومن بينها مخطوط ديوانه الشهير «شاعر في نيويورك» الذي كان قد كتبه الشاعر خلال زيارته وإقامته في هذه المدينة العملاقة، إضافة إلى عرض المخطوط الأصلي االنادر للمرة الأولى لهذا الديوان أمام الجمهور، وعرض أصول المخطوطات الأصلية للرسائل التي سبق أن كتبها الشاعر الغرناطي إلى أصدقائه وأهله وذويه، خلال رحلته لكل من نيويورك وكوبا، إضافة إلى تنظيم عدد من الأنشطة والندوات والتظاهرات الثقافية والشعرية والفنية الموازية في مختلف مجالات الخلق والإبداع بمشاركة كبريات الجامعات الأميركية مثل «جامعة كولومبيا» الشهيرة وسواها من المعاهد العليا والمؤسسات، والجمعيات الثقافية الأخرى الإسبانية والأميركية.
في مدينة ناطحات السحاب
«شاعر في نيويورك»، هو عنوان الديوان المعروف الذي وضعه فيديريكو غارسيا لوركا خلال وجوده في جامعة «كولومبيا الأميركية» في نيويورك في الفترة المتراوحة بين 1929 و1930، ثمّ خلال سفره إلى كوبا بعد ذلك، التي كانت مهبطاً وملاذاً لعددٍ من المثقفين والأدباء والشعراء الإسبان «الجمهوريين» الذين كانوا يُنعتون بـ«الحمر السايرون»، والذين كانت لهم مواجهات عنيفة مع الجنرال فرانكو خلال الحرب الأهلية الإسبانية 1936 ـ 1039 ، وقد نشر ديوان «شاعر في نيويورك» للمرّة الأولى عام 1940 أي 4 سنوات بعد مصرع الشاعر. وكان لوركا قد غادر إسبانيا 1929 ليلقي بعض المحاضرات في كوبا ونيويورك، وإن كان سبب هذه الرحلة في العمق، هروبه وابتعاده عن جوّ المهاترات والمشاحنات الذي أصبح سائداً في الأوساط الدراسية في مدريد، إذ كان لوركا قد أصيب من جرّاء ذلك بكآبة شديدة، كدّرت حياته في العاصمة الإسبانية، وقد كان للمجتمع الأميركي تأثير حاسم على الشاعر، إلا أنّه أحسّ بنفور كبير من الرأسمالية، والتصنيع المبالغ فيه، كما أنه شعر باشمئزاز بليغ من المعاملة التي كان يوسم بها الأميركان البيض الأقلية المهمّشة من السود، لقد كان هذا الديوان صرخة مدوية ضد الرعب، للتنديد بالظلم والتمييز العنصري وإدانتهما في هذا المجتمع الغارق في التصنيع المادي، والاغتراب القاتل للجنس البشري، والمناشدة بضرورة احترام البعد الإنساني للبشر، وصون حقوق الإنسان، وسيادة الحرية والعدالة والحبّ، وربّما هذا ما حدا بالنقّاد إلى اعتبار هذا الديوان من أهمّ الأعمال الشعرية التي ظهرت وواكبت عصر التحوّل الاقتصادي، والتطوّر الاجتماعي، والصناعي، والنموّ الديموغرافي بطريقة لم تعرفها البشرية من قبل.
يتألّف المخطوط الأوّل والأصلي الوحيد لهذا الديوان من حوالى 100 صفحة مكتوبة على الآلة الراقنة، إضافة إلى 26 صفحة مكتوبة بخطّ اليد، هذا المخطوط كان قد هاجر مع الأديب والناشر الإسباني خوسيه بيرغامين الذي كان لوركا قد سلّمة المخطوط لنشره إلى فرنسا في المقام الأوّل، ثمّ في مرحلة أخرى إلى المكسيك، حيث نشرت الطبعة الأولى منه عام 1940 في كلٍّ من المكسيك والولايات المتحدة الأميركية، وقد ترجمه آنذاك إلى اللغة الإنكليزية رولف هومفريس، وظلّ المخطوط في النصف الثاني من القرن العشرين متخفياً ينتقل من يدٍ إلى يد حتى وقع عام 1999 في يد الممثلة الإسبانية مانويلا ساهافيدرا، وفي عام 2003 أمكن لـ«مؤسّسة غارسيا لوركا» استعادة هذا المخطوط بعد اقتنائه في أحد المزادات العلنية، ثم اشترته في آخر المطاف وزارة الثقافة الإسبانية عام 2007.
من القصائد التي يتضمّنها الديوان: «السماء الحية»، و«البانوراما العمياء لنيويورك»، و«الموت»، و«غنائية الحمام»، التي أصبحت في ما بعد تحمل اسم «قصيدة الحمائم الحالكة» ، وقصيدة «الثور والياسمين»، التي أصبحت في ما بعد تحمل عنوان «قصيدة الحلم في الهواء الطلق» ، و«أرض وقمر»، وسواها، وبعض هذه القصائد مدرجة كذلك في كتاب آخر للشاعر لوركا يحمل عنوان: «ديوان تماريت»، كذا ، أي باستعمال كلمة ديوان كما تنطق، وتستعمل، وتفهم في اللغة العربية إلى اليوم.
ذكريات ووقائع عن مصرع لوركا
ظلّ حادث مصرع الشاعر فيديريكو غارسيا لوركا لغزاً محيّراً يغلّفه الكثير من الغموض، كما نسجت حوله غير قليل من الروايات والحكايات، التي كانت في الغالب تختلف في ما بينها، وكانت بالتالي تنأى عمّا حدث بالضبط حين اقتاد الحرس المدني النركاوي الشاعر لوركا إلى مصيره المحتوم، حتى ظهرت رواية الشاعر الإسباني الأندلسي القادسي رفائيل ألبرتي من الجيل الأدبي الإسباني الشهير نفسه 27 الذي كان ينتمي إليه لوركا ، التي أماطت اللثام عن بعض الحقائق التي لها صلة بهذا الحادث الإجرامي المؤسف، إذ كان الشاعر ألبرتي قد كشف النقاب قبيل رحيله عن تفاصيل مثيرة ودقيقة لم تكن معروفة من قبل عن مصرع لوركا، وكيف أنّه واجه الموت بشجاعة وحزم وصلابة.
يقول ألبرتي في هذا الصدد: «إن طبيباً إسبانياً يدعى فرنسيسكو فيغا دياث، كان شاهد عيان في حادث مقتل الشاعر فيديريكو غارسيا لوركا، وكان قد حكى قصّة في هذا الشأن ردّدها له سائق التاكسي الذي قاد لوركا، إلى جانب معتقل آخر وثلاثة من العساكر الذين ينتمون إلى الحرس المدني الإسباني. كانت قد أعطيت للطريقة التي قتل بها لوركا تفسيرات مختلفة حول هذا الأمر، وبحسب الطبيب فرنسيسكو فيغا دياث، فإنّ سائق التاكسي كان قد زاره في عيادته في 13 آب 1936. كانت الأحداث قد وقعت في الليل، وقد تعرّف سائق التاكسي على واحدٍ من الذين تمّ القبض عليهما وهو الشاعر الغرناطي لوركا بواسطة الكشافات التي أنارها الحرّاس للقيام بعملية الاغتيال، وكان غارسيا لوركا قد سافر من مدريد إلى مسقط رأسه غرناطة إذ ـ بحسب الشاعر ألبرتي ـ كان لوركا يعتقد أنّه في أرضه وبين أهله وذويه سيكون في مأمنٍ من الخطر».
وأضاف في هذا السياق: «إنّ لوركا كان يغشاه خوف الأطفال، وكان يعتقد أنّه في غرناطة لن يحدث له شيء، فركب القطار إليها، إلّا أن الموت فاجأه هناك، فكلٌّ منّا يحمل موته معه». ولقد سمع سائق التاكسي الشاعر لوركا يقول لقتلته: «ماذا فعلت حتى تعاملونني هكذا؟»، ثم ألقى الحراس بعد ذلك بلوركا والشخص الذي كان معه ـ كان مسنّاً وأعرج ـ داخل حفرة منخفضة، فعمل الشاعر على مساعدة زميله على الوقوف، ما زاد في حنق الحرّاس وغضبهم عليه حيث ضربه أحدهم بمؤخّرة سلاحه وشجّ به أمّ رأسه، ثم بدأ القتلة يشتمون الشاعر، ويرمونه بأحطّ النعوت، وطفقوا بعد ذلك في إطلاق النار عليه على الفور. وأكّد السائق أن اثنين من مصارعي الثيران، وعشرة من الأشخاص الآخرين قتلوا كذلك في تلك الليلة المشؤومة نفسها.
وتعلّق الأديبة والناقدة المكسيكية إيرما فوينتيس متحسّرةً على ذلك قائلةً: «إنّ الشعراء مثل الأبطال والأنهار يطبعون شعوبهم بطابعهم الخاص، ويجعلون شعوبهم تختلف عن الشعوب الأخرى، فالشعراء يتركون في العالم ضوءاً مشعّاً متعدّد الألوان، والأطياف، وهم يجعلون الرجال يجتمعون، ويتوحّدون رغم تباين أجناسهم، وثقافتهم، ومشاربهم، والخلافات نوعية الإيديولوجية والسياسية، والمشاحنات والمواجهات والمشاكسات التي قد تنشب بينهم، وقد تصل حدّ الحروب والعنف. فكلّ شاعر من هؤلاء بغضّ النظر عن الزمن الذي يولد فيه، يصبح بمثابة معزف كونيّ متعدّد الأوتار، وإن اختلفت أنغامه، وتباينت ألحانه فهو يعزف معزوفة واحدة يعظمها كلّ موجود حي في أي صقعٍ من أصقاع العالم».
وتضيف الناقدة المكسيكية ممتعضة: «وعليه، فإنّ فقدان أيّ شاعر لدى أيّ أمة، حدث تراجيديّ عميق يمسّ الإنسانية جمعاء لا رقعته الجغرافية فحسب. هذا على رغم وجود شعراء آخرين كبار. أمّا إذا اغتيل شاعر ظلماً وعدواناً، فإنّ الشعور بالمأساة يتفاقم ويزيد ويكون أفدح».
على ضفاف الوادي الكبير
بدأ غارسيا لوركا قرض الشعر في العشرين من عمره واستمرّ في الكتابة حتى يوم اغتياله عام 1936، وقد خلّف لنا عشرات من القصائد مبثوثة في عدد من دواوينه مثل «كتاب الأشعار»، و«قصائد غنائية»، و«القصائد الأولى»، و«أغاني الغجر الشعبية»، و«شاعر في نيويورك»، و«بكائية عن إغناسيو سانشيس ميخياس»، ثم عدداً من الدواوين كان يمكن أن تضاف إلى هذه القائمة لو قدّر لحياته أن تستمرّ على وتيرتها الطبيعية أو الاعتيادية. فكيف يا ترى كانت أعماله الإبداعية اليوم؟ ومن ذا الذي يمكنه أن يعوّضنا عمّا ضاع مع الشاعر باغتياله؟
الشاعر فيديريكو غارسيا لوركا عندما كان يتجوّل ذات مساء حالمٍ في سكون على ضفاف نهر الوادي الكبير على وقع أصوات خرير مياهه البلّورية المتلالئة قال:
أصوات الموت دقّت،
قرب الوادي الكبير
أصوات قديمة طوّقت،
صوت القرنفل الرجولي
ثلاث دقّات دموية أصابته،
ومات على جنب.
على رغم شغف لوركا بالمسرح وإبداعه ونبوغه فيه، فإنه في حياته الأخيرة لم يتوقف عن نظم أشعار رقيقة مؤثّرة وحزينة. كانت الأندلس من أبرز علامات هذه الأشعار. كان لوركا شاعراً مجيداً ومجدّداً، ومبدعاً فريداً، وطائراً صادحاً غرّيداً في بساتين الشعر وحدائقه الغنّاء. كان من الطليعيين إلى جانب الفنان المالقي العالمي المبدع بابلو بيكاسو في مجالات الصور والتشكيل والرسم حتى أصبح من دون منازع من أعظم شعراء القرن العشرين الذي ولّى.
مناغاة الموت
هذا المبدع الذي أحسّ بقرب نهايته، ودنوّ ساعته، كانت له مقدرة هائلة على التغنّي بالجمال، وتجسيم الألم، ورصد المعاناة، كان يقول:
ما هو مآل الشعراء، والأشياء الناعسة؟
التي لا يذكرها أحد، آه يا شمس الأموال؟
أيها الماء الزلال، والقمر الجديد
يا قلوب الأطفال وأرواح الأحجار السذابية
إنني أشعر اليوم في قلبي ارتجاج النجوم الغامض
وكلّ الورود ناصعة البياض كحسرتي.
على أوراق أحزانه، فوق لجج هموم بحره منذ الصغر، وإلى تلك المرثية التي كتبها عن أحد أصدقائه من مصارعي الثيران كان لوركا مهووساً بالموت، دائم الحديث عنه، وعن هواجسه، وقدره، وحياته في شعره:
فليمت قلبي وهو يغنّي في هدوء،
عن السماء الجريحة الزرقاء
ويقول مجيباً عن سؤال الصغار:
امتلأ قلبي الحريريّ بالأضواء،
والنواقيس الضائعة،
والزنابق والنحل، سأذهب بعيداً بعيداً
ما وراء تلك الجبال، ما وراء تلك البحار
قريباً من النجوم.
ثم نجده يطلب ما لم يمنحه إياه الزمن، وما لم تهيئه له حياته، وظروفه، وقدره، حيث يقول في قصيدة أخرى:
خليلي أريد أن أموت، بريئاً على سريري
الفولاذي إذا أمكن، ذي الملاءات الهولندية
إلّا أنّ القدر كان واقفاً له بالمرصاد، ولم تتحقّق له هذه الأمنية، فقد مات لوركا مغتالاً، مقتولاً، صريعاً برصاص خصوم الحرية والانعتاق، وأعداء الشعر والحياة.
كاتب وباحث مغربي