الفنّ الاختصاري «Minimal Art»… بدايات وتطوّر
ندين زهر الدين
الفنّ الاختصاري أو الأقليّ ، هو حركة أميركية النشأة، ينبع معظمها من أعمال فرانك ستيلا Frank Stella، حيث عُرضت أعماله «اللوحات السوداء» «Black Paintings» للمرّة الأولى في متحف الفنّ الحديث في نيويورك عام 1959، وألهم كثيرين من الفنّانين في الابتعاد عن الفنّ التعبيري الماضي.
وعلى رغم أنّ الفنّ الاختصاري لم يكن حركة منظّمة، ولم يعلن نفسه، فقد أصبح هو السائد في النحت والتجهيز العملي، مع العلم أنّ هناك رسامين اختصاريين كثيرين.
ظهرت حركة الاختصاريين «Minimalism» في نيويورك أوائل عام 1960، بين الفنانين الذين نبذوا بوعي ذاتيّ الفنّ الحديث، وظنّوا أنه أصبح قديماً وأكاديميّاً، وقد استُنفِدت أصالته. كما دفعت موجة من التأثيرات واكتشاف الأساليب الجديدة ببعض الفنانين الشباب، إلى السؤال عن الحدود التقليدية بين وسائل الإعلام المختلفة. وقد كان معرض عام 1966 بعنوان «الهياكل الأساسية Primary Structures» في نيويورك، حدثاً رئيساً في تاريخ هذه الحركة.
إنّه فنّ جديد يفضّل الباهر على الدراماتيكي: غالباً ما كانت منحوتاتهم مُصنّعة من المواد الصناعية، وشدّدت على المجهول اللامكشوف عن هويته بخلاف التعبير المفرط لدى التعبيرية التجريدية، وتجنّب الرسّامون والنحّاتون الرمزية العلنية والمضمون العاطفي والإنساني، ودعوا للانتباه إلى الأهمية المادية للأعمال. وفي نهاية عام 1970، شاع في أميركا وأوروبا من خلال مجموعة من الأقوياء بمن فيهم المشرفون على المتاحف وتجّار الأعمال الفنيّة، والإعلانات، إضافة إلى أنظمة جديدة من الرعاية الخاصة والحكومية.
رفض الاختصاريون الحاجة إلى التعليق الاجتماعي والتعبير عن الذات، السرد، أو أيّ إشارة أخرى إلى التاريخ، والسياسة، أو الدين لأنه يقوم على إنشاء أشياء من الفائدة والجمال. وقد اختزلوا عملهم إلى أقل عدد ممكن من الألوان والقيم والأشكال والخطوط والملامس.
وكان ديفيد بورليوك David Burlyuk أول من استخدم مصطلح الاختصاري أي «مينيمال Minimal» في «كتالوغ» المعرض للوحات جون غراهام John Graham في معرض «دودينسنغ Dudensing» في نيويورك عام 1929، وأضيف هذا المصطلح في ما بعد إلى هذه الحركة عام 1960.
كان فنّ الاختصاري ردّ فعل ضدّ المبالغة الشديدة الشكلانية والادّعاءات إزاء التعبيرية التجريدية «Abstract Expressionism». وكانت له جذورٌ في فنّ الـ«بوب آرت Pop art»، والتكعيبية «Cubism»، والفنّ المفهومي «Conceptual art» وكان أيضاً مستوحى من التفوّقية الروسية «Suprematism» مثل كاسيمير ماليفيتش Kasimir Malevich. وهو عادةً دقيق ومحدّد وحادّ. وقد دمج أشكالاً هندسيةً في أحيان كثيرة في أنماط متكرّرة ومسطّحات من اللون الصلب بدرجات مختلفة، وغالباً ما يستند إلى تأليف هندسيّ، وكان استخدام المواد الصناعية شائعاً فيه، من أجل إلغاء تدخّل الفنان لذلك سعى الفنّ الاختصاري إلى إنشاء كائن مع وجود شيء يمكننا أن نراه في مظهره المادي الأساسي ونقدّره لقيمته الظاهرة.
أراد الاختصاريون أن يخوض المُشاهِد تجربة عملهم من دون إلهاءات التأليف، والموضوع، وغيره من عناصر العمل التقليدي. كان الوسيط ومواد العمل واقعها، وما أراد الفنانون تصويره يعتمد على أساس وجود العمل الموضوعي الواقعي، إذ لم يكن المقصود من المواد المستخدمة أن ترمز إلى أيّ أمر آخر. فلم يَعُد يُستخدم اللون للتعبير عن الشعور أو الحالة المزاجية، ولكن ببساطة لتحديد الفضاء. سعى العمل إلى استحضار ردّ من المُشاهِد من حيث العلاقة بين مختلف عناصر العمل. ورفض الفنّانون فكرة أنّ الفنّ يجب أن يعكس تعبير صاحب العمل، لذلك كان هناك نقص في العاطفة وصنع القرار اللاواعي، وإخفاء وجود الفنانين ومشاعرهم، ناهيك عن أنهم يعتقدون أن ردّ فعل المُشاهِد الشخصية إزاء العمل لها أهمية أكبر، فسعوا إلى القضاء على أثر وجودهم في العمل.
شكّك الفنّ الاختصاري في طبيعة الفنّ ومكانته في المجتمع. فاعتبر بعضهم أن هذا الفنّ فنّ منيع وفارغ، ورأى آخرون أنه مفهوم ثوري للجمالية النقية، وقد أثّر بقوّة في فنّ ما بعد الحداثة «Post-modern art». وفي الجيل الآحِق، فهناك عدد من المنظّرين الذين أصبحوا ناطقين مهمّين بِاسم كلّ من الحركات الفنية: الفنّ الاختصاري والفن المفهومي «Conceptual Art»، ذو الأساليب المعاصرة. وساعد هؤلاء الفنانون والكتّاب في تحديد جماليات ومفهوم النقدي لكل من هذه الأساليب.
حاول دونالد جود Donald Judd في مقاله «الأشياء المحدّدةSpecific Objects» المنشور عام 1965، التأسيس لجماليات الفنّ الاختصاري، وأنه في الواقع قد رفض اسم الاختصاري مينيمال Minimal لوصف هذا الفنّ، مفضّلاً بدلاً من ذلك مصطلح «أشياء محدّدة Specific Objects»، الذي وصفه بأنه رفض للفروق التقليدية بين الأشكال الفنية التي تشمل الأعمال التي لم تصنّف بسهولة إما رسماً أو نحتاً.
بينما دعا روبرت موريس Robert Morris في الجزء الثالث من مقاله «ملاحظات على النحت Notes on Sculptures» عام 1966، إلى استخدام أشكال بسيطة يمكن للمُشاهد أن يستوعبها بشكل حدسيّ، وقال إنّ تفسير أعمال الاختصاريين يتوقف على السياق، والظروف التي ننظر إليها، وكيف ندركها. وكان يؤثر بشدّة على فكرة العمل الفنّي، باعتبار أن له معنى أصيلاً ـ مستمد من الفنان ـ بصورة مستقلة عن المُشاهد.
أمّا سول لوويت LeWitt، فساهم في تطوير هاتين الحركتين الفن الاختصاري والفن المفهومي . وقال في مقاله «فقرات عن الفن المفهوميParagraphs on Conceptual Art» 1967 الذي يعتبره كثيرون أنه بيان رسمي للحركة : محاكاة العمل الفنّي ليست مهمّة، بل يجب أن يبدو العمل وكأن لديه شكلاً مادياً، بغضّ النظر عن الشكل النهائي الذي قد يتّخذه، فمن الضروري أن يبدأ بفكرة، فعملية التصوّر والإدراك هي ما تهمّ الفنان». وقد عمل لوويت، لمدة 40 سنة حتى وفاته عام 2007، بصفته نحاتاً ورساماً ومصوّراً فوتوغرافياً، وكان رائد الفنانين الاختصاريين بعد وفاة جود Judd وفلافين Flavin.
ونشر كارل أندريه Carl Andre الشعر ذا النداء الأدبي والبصري، إذ أنشأ تشكيلاً فنياً لنصّ القصيدة، كما لو أنّ الكلمات هي الوسيط الصلب. وكانت هذه القصائد جزءاً لا يتجزّأ من معارضه حيث ظهرت، في بعض الأحيان، في بداية «الكتالوغ» أو قرب منحوتاته.
كما كان عمل جوزف كوزث Joseph Kosuth «كرسيّ وثلاث كراسٍ» «One and Three Chairs» عام 1965 عملاً مفهومياً، وقد تكوّن عمله من الأشياء التي وجدها مع صورة لهذا العمل، إضافة إلى تعريف شاسع له في «الغاليري» فإنه يُشكّك بما تشكّله الكرسي واقعاً في تفكيرنا: هل هي هذا الجسم الصلب الذي نراه ونستخدمه، أو هي كلمة كرسي التي نستخدمها للتعريف بها وإبلاغها للآخرين؟
ونتيجة لكلّ هذه النظريات الأساسية، وجدت حركة الاختصاريين المجال للتوسّع والشيوع.
فنانة تشكيليّة