أنس صباح فخري… مؤتمن على حنجرة والده ويسكب الغناء في آذان الذوّاقة
فرح مرقة
«توريث الحناجر»، لم تكن يوماً نظرية مصدّقة مئة في المئة، وقد لا تصبح يوماً حتى تجلس في مطعمٍ حميم ودافئ في العاصمة اللبنانية المجنونة بيروت، ثم يبدأ موشّح كنت تظنّ أنك لن تسمعه «Live» في حياتك بالقوّة ذاتها، بعد مرض هامة الطرب العربي صباح فخري، فتدعو للمطرب المذكور أن يمدّه الله بالصحة والعافية.
موشّح كـ«خلا العذار بوجنتيه» للّذي يعرفه من العملاق صباح فخري، ويطرب عليه مثلاً، لا يمكن أن يكون مُطرِباً أو يجعل مستمعه مسلطناً إلا إن غنّته حنجرة بحجم تلك التي لدى فخري، وذلك بمخيلة محبّي الفنان «مستحيل» بطبيعة الحال، إلا ان استمعوا لابن الفنان ذاته الذي على ما يبدو قد ائتمنه والده على حنجرة مشابهة ومختلفة في آن.
يغدو الجزم حلالاً إذن في حالة كحالة الشاب ذي الطلة البهية والصوت الجبار أنس صباح فخري، في سؤالٍ من وزن إمكانية توريث الحناجر. خصوصاً إن كنت تجلس أمامه في مطعم أيقونيّ لشدّة حميميته واحتوائه على الذوّاقة من الفنانين والمثقفين، فأنس، لديه القدرة على أن ينظر بعينيك وعينيّ كل الموجودين مباشرة، وهو يغنّي حتى يتأكد من أنك تستشعر جنون صوته في خلاياك كلّها.
فخري الابن، يقف ممشوقاً أمام ميكروفون يبعد عن فمه حوالى نصف متر أحياناً ويقترب كثيراً أحياناً أخرى، ويبدأ بسكب خمر الحبّ في آذان مستمعيه على شكل موشّحات وقدود حلبية، فيشربونها طرباً وسلطنةً. وهم يلتفتون في كلّ واحدة من تجلّيات أنس إلى والده، الذي يجلس على واحدة من الطاولات المدوّرة في المطعم ويحرّك رأسه طرِباً.
الوالد تلتمع عيناه وهو يستمع بطربٍ لفلذة كبده يغنّي «فوق النا خل»، ويسبقها بموّال يثبت فيه أن حباله الصوتية لا تقلّ متانة عن الحبال التي لدى والده الأسطورة، فيبدأ صوته واثقاً يمشي على جسور تربطه بمستمعيه مطهّراً بطريقه آذاناً ملأها الفنّ التجاري ضوضاء وتلوّثاً سمعياً ليشعر السامعون برغبة بألا يسمعوا حرفاً من أحد سواه أثناء حفلته وبعد انتهائها.
أنس صباح فخري، الشاب الممشوق الذي لا يمكن لمن حضره إلا أن يراه شخصية كاملة متكاملة، مختلفة ومتشابهة في الوقت ذاته مع العملاق صباح فخري، من دون أن تقع بفخّ التقمّص الأعمى، التقينا به للمرّة الأولى قبيل حفلته التي كان يشدو فيها بضخامة في مطعم «نوّارة» البيروتي ذي النكهة المحببة قبل سنتين، يحضره مستمعون لا يصل عددهم إلى المئة، ويغني أمامهم كـ«أوبرالي» قدود والده الحلبية بتصرّف ينثر على الأصل بعض الورود.
عمره في أواخر الثلاثينات، وقد تنقل بين ضروب الغناء حتى وجد نفسه شبه مستقرّ بحسب تعبيره في اللون الذي يغنيه، وهو مدرك جيداً أنه يخترع لوناً جديداً بعدما مزج في شخصيته الكثير من القدود والمواويل الطربية مع بعض فنّ الأوبرا الذي تعلمه على يد أوبرالية أرمينية، إلى جانب بعض الرشّات من الرقصات الغربية، كتلك التي كان يرقصها أسطورة غربيّ راحل كمايكل جاكسون.
من عمّان… هنا حلب!
بعد سنتين على اللقاء الاول، جلسنا مع فخري الابن في العاصمة الأردنية عمّان، فيبدأ حديثه من حيث تشبه عمّان حلب، وكيف تهزّ وجدانه حجارتها وقسوة طبيعتها بصورة تشعل في نفسه حنيناً لا ينطفئ لمسقط رأسه ومدينة قلبه.
فخري الابن، يرى في المدينة التي زارها بصورة كبيرة سابقاً، قبل الأزمة التي ساهمت في فرض بعض القيود على التأشيرات للسوريين، شقيقة صغرى لحلب، ويتمنّى لها السلامة ممّا أصاب الكبرى ويصيبها، ثم يضيف: لكنني متأكد من أنها ستعود مجدّداً… لطالما دُمّرت حلب وعادت حيّة.
دَرس أنس فخري أو أنس أبو قوس كما اسمه في الهوية الأدب الفرنسي، كما تعلّم الغناء الكلاسيكي والأوبرا في مرحلة مبكرة من حياته، ثم أتبعها بتعلّم المقامات الشرقية على يد أستاذ عراقيّ. بدأت رحلته الغنائية طفلاً، الأمر الذي لا يمكنه ذكره من دون الإشارة إلى أن والده كان دوماً يفيده بنصائحه المختلفة، كطلبه إليه وقف الغناء أثناء مرحلة بلوغه حتى لا يؤذي حنجرته، وحثّه على الاتجاه الفنّي الذي يحبّه.
بدأ أنس مشواره بعيداً عن فنّ والده، فاتجه إلى غناء الـ«Hard Rock»، وهو ما اعترف في سياقه، أن شهرة والده وخوفه منها ومن اتهامه بالانتهازية كان سبباً في ذلك، على رغم أنه بطبيعة الحال لم يسلم من الاتهامات.
«كان بدّي إعمل شي مميّز مختلف. ما بدّي نجاحي يكون تحصيل حاصل»، قال ذلك أنس بلهجته الحلبية المحبّبة ـ التي بدأت تلمح فيها بعض الأثر اللبناني مع محاولات خفيفة لكلمات باللهجة الأردنية الفلسطينية ـ بينما كان يحتسي شاياً بالنعناع، وأضاف: «رحت على مجال ما ممكن حدا يحكي إني استفدت من والدي فيه، أخدت مجموعة جوائز وكنت عامل كورال بالجامعة بقِسم اللغة الفرنسية وكرّموني كنت في كثير من المحافل عراباً للموسيقى التجديدية».
من الحديث عن الموسيقى الأجنبية والكلاسيكية والأوبرالية والـ«هارد روك»، ثم الانتقال بالصدفة كنوع من الاعتراف بالوالد وإحياء إرثه العريق إلى الموشحات والقدود الحلبية، يستطيع أيّ شخص أن يتخيّل البوتقة التي انصهرت فيها كل هذه الألوان لتبث في الآذان ما يُطرب القلب.
بالنسبة إليه، فإن حلمه إنتاج حقيقي لمقامات لم تغنّى من قبل، الأمر الذي نبش في سبيله الكثير من كتب الشعر القديمة، قائلاً إنه يرى في أبيات شعر للشافعي ولعنترة العبسي ما يريد أن يعيد إحياءه.
الحلم المذكور لم يبدأ بتنفيذه لأسباب متعلقة بشغفه في استكمال كلّ مرحلة ومنحها حقها. ففي تقسيماته لحياته الفنية يرى أنه اليوم لا يزال يوثّق التاريخ، أما المستقبل فيحلم لأجله بهدوء ليأتي كلّ شيء في وقته تماماً، كما يكرّر الشاب الأنيق.
أنس، الابن الأصغر للنجم الأسطورة، يقيم اليوم مع والديه في العاصمة اللبنانية بيروت، والتي يتحدّث عنها بحبّ بالغ، ويغنّي في أحد مطاعمها الشهيرة، يقول عنها: هي منذ زمن عاصمة قلبي حتى قبل أن أسكن فيها، تتميّز بأنها تقدّر الفن والجمال وتمنحه قيمته.
ينهي الشاب حديثه ليستعدّ لتقديم سهرته الرمضانية في واحد من فنادق عمّان، معتبراً أنه اليوم يرى في العاصمة الأردنية ساحة واعدة ملؤها القلوب الدافئة تحتضن فنّه كلّ ليلة على رغم قسوة الحجارة والطقس فيها، والذي أثار لديه مجدّداً تنهيدة الحنين.
زميلة في «رأي اليوم»