الاعتراف بالاحتلال شرط لنيل الاستقلال…

د. عصام نعمان

المفاوضات هي أرقى أشكال المساومات. صحيح أنّ الجولة الأخيرة من المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني و«الإسرائيلي»، بحضور المبعوث الأميركي مارتن أنديك، كانت «معركة قاسية تخللتها تهديدات مباشرة»، كما وصفتها مصادر «إسرائيلية»، لكنها لم تؤدّ قط الى قطع مسار التفاوض. حتى قرار القيادة الفلسطينية بالانضمام الى معاهدات دولية ومؤسسات تابعة للأمم المتحدة من جهة وإلغاء «إسرائيل» قرار الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين من جهة أخرى، لم يعتبرهما جون كيري بمثابة قطع للمفاوضات. أنحى باللائمة على الطرفين واصفاً ما حدث بأنه «هوة يقتضي ردمها بسرعة».


الى اين من هنا؟

الأرجح الى مزيد من الاتصالات، مباشرةً او مداورةً، من اجل تدوير الزوايا والعودة، ربما، الى أطول مفاوضات في التاريخ المعاصر… إلاّ اذا قرّر أحد الطرفين سلوك طريق موازٍ او معاكس يعتقد انه اكثر جدوى في المدى القصير أو الطويل.

لا يبدو بنيامين نتنياهو في وارد تقديم «التنازلات» التي يريدها الفلسطينيون للموافقة على تمديد المفاوضات. حلفاؤه اليمينيون المتطرفون يرفضون مجرّد الإشارة الى تجميد الاستيطان في القدس. يرفضون دولة فلسطينية على «حدود 1967». يرفضون إزالة الحصار عن قطاع غزة. يرفضون الإفراج عن 1200 أسير فلسطيني بينهم مروان البرغوتي واحمد سعدات وفؤاد الشوبكي. يرفضون «منح» السلطة الفلسطينية السيطرة على المنطقة «ج» في الضفة الغربية.

هذه «التنازلات» هي الحدّ الأدنى المطلوب كي يوافق محمود عباس وفريقه على تمديد المفاوضات من دون ان يخسروا ماء الوجه. لكن نتنياهو يعلم انّ القبول بها يعني انهيار الائتلاف اليميني وسقوط حكومته.

في المقابل، يعي محمود عباس جيداً انّ المفاوضات أضحت متاهة، وأن لا جدوى البتة من عقد أي اتفاق جديد مع «إسرائيل» لأنّ قادتها لا يمكن ان يلتزموا بما يتعهّدون به. ليس أدلّ على ذلك من اتفاقات اوسلو للعام 1993. فقد امتنعت «إسرائيل»

عن تنفيذ معظم أحكامها، بل هي استغلتها لتوسيع دائرة الاستيطان والإمعان في قمع الفلسطينيين أمنياً ومحاصرتهم سياسياً واقتصادياً. ولعلّ أسوأ ما انتهت اليه اتفاقات اوسلو أنها كرّست الاحتلال «الإسرائيلي» للضفة الغربية في ظلّ صيغة شكلية ملتبسة اسمها السلطة الفلسطينية.

ما عاد بإمكان الفلسطينيين العودة الى نهج المزيد من الشيء نفسه. لا يمكن العودة الى التفاوض بشأن حقوق وأمور جرى «الاتفاق» عليها سابقاً. حتى أمين سرّ منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبد ربه، صاحب السجل الطويل الحافل بمفاوضة «الإسرائيليين» رسميينَ ومعارضين، فجّر سخطه على إلغاء الإفراج عن آخر دفعة من الأسرى الفلسطينيين بقوله لوكالة «فرانس برس»: «إسرائيل اعتادت التنصل من الاتفاقات الموقعة معها، لهذ السبب فإنّ شروط اي مفاوضات مقبلة إنْ حصلت يجب ان تتغيّر جذرياً».

لعل تغيير شروط المفاوضات هو ما كان أضمره ابو مازن وفريقه عند اتخاذ قرار الإقدام على الانضمام الى 15 معاهدة دولية واعتزام الانضمام الى مؤسسات عدّة مهمة تابعة للأمم المتحدة مع الحرص على إعلان عدم التخلي عن مسار المفاوضات. هذا القرار الجريء والمؤثر يتيح للفلسطينيين مسارين، لكلّ منهما فوائد شتى: الاستحصال من «إسرائيل» على تنازلات وافرة ومجدية في حال موافقة القيادة الفلسطينية على تجميد تنفيذ قرارها المشار اليه، او إمعان «اسرائيل» في إنكار حقوق الفلسطينيين ما يؤدي الى تنفيذ قرار القيادة الفلسطينية الأخير ومتابعة مفاعيله المجدية.

لعلّ اهم مفاعيل قرار القيادة الفلسطينية ما اوردته صحيفة «هآرتس» في سياق تحذيرها حكومة نتنياهو من مغبة سلبيتها المتمادية: «اذا صارت فلسطين عضـواً فـي المعاهـدات الدولية الاساسية فإنّ هذا سيجعل المدعي العـام للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي قادراً علـى النظر في الدعاوى التي اقامها الفلسطينيون على «اسرائيل»، وسيفتح الباب امـام التحقيـق مـع «الإسرائيليين» أيضـاً في موضوع المستوطنات، لأن قانون المحكمة الدولية يمنع دولة محتلة من نقل سكانها الـى اراضٍ تحتلها… وعملياً تبدو الخطوة الفلسطينية الأخيرة تحركاً إضافياً مـن اجل تأسيس مكانـة فلسطين كدولة، وهـي ايضاً رسالة تحذير موجهة الى «اسرائيل» من احتمال جرّ ممثليها الى مقاعد الاتهام في لاهاي».

أجل، لعلّ أهمّ مكسب حقيقي يحصل عليه الفلسطينيون من الانضمام الى المعاهدات الدولية، ولا سيما اتفاق روما المتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية، هو انتزاع اعتراف دولي بأنّ الوجود «الإسرائيلي»، الأمني والاستيطاني، في الضفة الغربية هو احتلال غير شرعي لدولة قائمة وفق أحكام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. ذلك أنّ بقاء الضفة محكومة بأحكام اتفاقات أوسلو يجعلها في وضع ملتبس: فلا هي دولة سيدة مستقلة بمعايير القانون الدولي، ولا «إسرائيل» تتعامل معها كدولة، وبالتالي فإنّ القادة الصهاينة يثابرون على اعتبارها جزءاً من «أرض اسرائيل» التواراتية ويتابعون استيطانها من دون ان يواجهوا كبحاً او حتى مجرّد اعتراضٍ وازن من الأمم المتحدة.

لا معنى ولا جدوى لاتفاقات اوسلو، ولا مفعول سيادياً لاعتراف الأمم المتحدة بفلسطين كـ»دولة مراقبة»، ولا استقلال حالياً ولا في المدى المنظور لدولة فلسطين في ظلّ اتفاقات أوسلو غير النافذة وبقاء الاحتلال الإسرائيلي بكلّ سلطاته ومظاهره ومفاعيله. يجب الحصول، اولاً، على اعتراف من الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها ودول العالم باحتلال «اسرائيل» للضفة الغربية كشرط لتسويغ المقاومة والمطالبة باستقلال الدولة والارض معاً. مع الاعتراف الدولي بالاحتلال «الإسرائيلي» تصبح المقاومة عملاً مشروعاً ومقبولاً ومدعوماً ومجدياً.

الى ذلك، فإنّ توصيف وجود «إسرائيل» في الضفة الغربية بأنه احتلال ينهي عملياً أكذوبة اتفاقات اوسلو، ويفتح الطريق امام نزع شرعية «اسرائيل» ذاتها على الصعيد الدولي، ويُكره قادتها على القبول بتغيير أسس المفاوضات مع الفلسطينيين، بل مع دولة فلسطين السيدة، على نحوٍ يؤدي الى تسريع وتيرتها والتوصل خلالها الى اتفاقات مجدية وملزمة. وفي حال كابرت «إسرائيل» ومانعت في سلوك سبيل المفاوضات على أسس مغايرة تماماً لتلك التي جرى اعتمادها طيلة السنين العشرين الماضية، فإنّ باب المقاومة الشعبية ينفتح على مصراعيه بشكلٍ يؤدي الى توحيد الإرادة الوطنية الفلسطينية وعلى تزخيم الكفاح وتحويله الى حركة تحرير وطني لفلسطين أولاً وللأمة تالياً.

إنّ التحوّلات الكبرى في تاريخ الأمم لا تتكامل في المفاوضات والمساومات بل في المقاومة المدنية والميدانية بما هي القاطرة المحركة للطاقات والقدرات والصانعة للمصائر.

وزير سابق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى