ساعات المجد الثلاث!
نصار إبراهيم
في الزمن الصعب واللحظات المنحوسة، سينهض دائما، وكالعادة، دم فلسطيني باسل من مكان ما. فيعيد المجد إلى الحقيقة والبديهيات الأولى.
قيل يومذاك: …تصاعدت أصوات المؤذنين على المآذن تستنزل الرحمات، وقرعت نواقيس الحزن في الكنائس، وولولت النساء، وتصاعد عويلهن في البيوت. وتساقطت الدموع غزيرة في مآقي الرجال المجتمعين وأنشدت الجماهير «يا ظلام القبر خيّم». وقد خيّمت روعة الموت وسادت رهبة الموقف بينما وقف الجند يتبخترون ذهاباً وإياباً. لقد طلب فؤاد حجازي في الليلة التي سبقت يوم إعدامه من مدير السجن أن يطلعه على غرفة الإعدام. أما عطا الزير ومحمد جمجوم فقط خضّبا أيديهما بالحناء بحسب تقاليد الأعراس في الخليل. وفي يوم الإعدام تنافس الثلاثة على من يُعدم أولاً. جريدة «الزهور» الحيفاوية 19 حزيران 1930 .
سار الولد الكنعاني مع الشاطئ، غاصت أقدامه في الرمل الحارّ، أرسل عينيه إلى السفوح البعيدة الصاعدة شمالاً. وقف، رفع رأسه نحو عكا، فأطلّ سجن القلعة من خلف الأسوار التي يضربها الموج وينكسر عائداً إلى البحر.
بقي الولد واقفاً يتابع إيقاع الموج، يستمع إلى حركة المياه وهي تأتي وتذهب. وقف طويلاً، تناغم الموج مع الشاطئ مع الولد. لاحت في عرض البحر أشرعة سفينة تقطع خطّ الأفق، فحملت الريح أغنية تشبه زهرة رمّان تشتعل مع الضحى حزناً، أخذتها الفراشات ومضت صاعدة نحو السفوح:
كانوا ثلاث رجال يتسابقوا عالموت
أقدامهم عِلْيت فوق رقبة الجلاد
وصاروا مثل يا خال طول وعرض لبلاد…
رحل الولد الكنعاني وراء أحلامه القصيّة. الآن يدخل ميناء عكا، يقف أمام كاسر الأمواج الخشبي الصلب. يتأمل الصخور الضخمة التي ساقها يوماً ابن طولون وأغرقها في البحر ثمّ أوصل كاسر الأمواج مع الشاطئ.
عند أقدام جبال الجليل. منذ الألف الثالثة قبل الميلاد وعكا تتباهى هنا بدلال. ومن هناك تطيِّر جدائلها كرفوف الحمام إلى مرج ابن عامر لتجمع القمح وتعود إلى أحضان السَّرو والصنوبر. إلهة كعنانية تقف بثوبها المزروع بالتعاويذ وأساطيرالخلق عند حد البحر كرمحٍ ولا تخاف. فالبحر يعانقها كعاشقٍ منذ ولادتها. يغسل أقدامها بالملح وأعشاب البحر. ابتسم الولد وفكّر: «يقول العابرون إنها مدينة بلا شعب… فكيف وجدت إذن!».
عكا عاصمة المتمرّد الباسل ظاهر العمر. هي ذاتها المدينة التي أغرقها الجزار العثماني جمال باشا بالموت. وهي ذاتها التي اندحرت أمام أسوارها هيبة نابليون. مدينة مشبعة بالتاريخ وذاكرة عامرة بأهازيج البحر والليل والصيد والحب والحصاد.
كنورس حلق الولد الكنعاني الراكض بخياله في سماء المدينة. في عرض البحر البعيد تراءت له أشرعة سفينة تتهادى نحو الشاطئ. وقف كبير البحارين وحوله البحارة. جاب الشاطئ بعينيه. قال خذوا ما نحتاج لنعدّ الطعام. سنمضي هنا على هذا الشاطئ ليلنا. سنشعل ناراً…
نزل البحارة، نصبوا خيامهم، أشعلوا مواقدهم، وبالصدفة استخدموا بعض حجارة «القِلي» نيترات البوتاسيوم ، كانت تحملها سفينتهم، لينصبوا قدورهم، راحوا يغذون النار بالحطب فاشتعلت وتوهّجت، مع الحرارة انصهرت النيترات بهدوء وامتزجت بالرمال الناعمة. أكل البحارة وشربوا وغنّوا أغاني البحر والليل والحنين، ثم توسَّدوا الرمال وأحلامهم وزوجاتهم وأطفالهم… وناموا.
مع أشعة الشمس الأولى استيقظ البحارة، وأخذوا يتهيأون للرحيل. فجأة، وهم يلمّون حوائجهم وقدورهم، خطف نظرهم بريق ولمعان عند أطراف المواقد. اقتربوا مدهوشين، كانت طبقة صلبة وشفافة تنساب لامعة على الرمال، تلمسوها بغرابة، رفعوها أمام عيونهم. ما أدهشهم أنهم، ورغم صلابتها، كانوا يرون ما خلفها، لقد كان الزجاج.
فيما البحر يوشوش الشواطئ، تذكر الولد أيار عام 1948 حين قاتل رجال عكا الكنعانية وناسها ما استطاعوا. يومذاك بكت وهي تنتظر جيوش العرب. لقد قاومت بلا طعام أو ذخيرة، ثم صمتت، كما صمتت أبراجها السبعة وهي تنتظر: برج كريم، برج الحديد، برج السنجق، برج كابو مقابل البوابة الأثرية ، برج الذباب المنارة برج السلطان وبرج الكومندار، صمتت جميعها وعيونها شاخصة نحو بحار بعيدة.
نظر الولد إلى أسوار سجن القلعة، تأملها طويلاً، كان الموج لحظتها يضرب الحجارة والأسوار، وكأنه يحاول اجتيازها ليصعد نحو السجن، أصاخ الولد السمع، فخيل له أصوات مآذن وأجراس كنائس تأتيه مع تقدم الأمواج وتراجعها، فتذكر وهو يرحل عائدا مع الزمن:
لمّا تعرَّضَ نجْمُـكَ المَنْحـوسُ
وترَنّحت بِعُرى الحِبالِ رؤوسُ
ناحَ الآذانُ وأعْـوَلَ النّاقـوسُ
فالّليلُ أكدرُ والنهارُ عبوسُ
إبراهيم طوقان
اليوم هو الثلاثاء، السابع عشر من حزيران 1930. في ذلك الصباح الحزيراني كان شروق الشمس نديّاً وحزيناً، حتى البحر كان هادئاً، ضوء الصباح يداعب المياه المتهادية بلا بهجة، حزينة كانت شوارع عكا وبيوتها، الصبايا يعانقن أحلامهن بالدموع، الأمهات يلوِّحن للسماء بمناديلهن، الرجال يسيرون أو يقفون بصمت الغضب، الأطفال ينظرون في الوجوه باستغراب، فيما عيونهم تتساءل لم كل هذا الحزن والألم؟
في ساحة سجن القلعة، نُصِبت منصّة مجد تتأرجح فوقها ثلاث أنشوطات تحركها الرياح القادمة من البحر على خلفية السماء الزرقاء وكأنها أشرعة سفن تجوب البحر تبحث عن شاطئ لكي ترسو.
الجنود الإنكليز يقفون ببنادقهم في حالة استعداد، وجوههم باردة، مقيتة، متعالية، وفي الوقت ذاته خائفة.
صمتٌ شامل، فقط رفوف العصافير العابرة تحلّق فوق السجن، ومن هناك تمضي نحو البحر، ثم لا تلبث أن تعود وكأنها لا تدري ما تفعل.
في هدأة الليلة الماضية، ليلة الإثنين السادس عشر من حزيران عام 1930 جلس ثلاثة رجال كأقمار مكتملة في زنزانة سجن القلعة تكاد رؤوسهم تتعانق كسنابل القمح، يرتدون ثياباً حمراء، هو لون الرحيل، فؤاد حجازي، محمد جمجوم، عطا الزير. كان هدير البحر الغاضب ودعاء أمهاتهم الحنون يأتيهم كانهمار القمر. عيونهم لا تفارق فسحة السماء، في تلك الليلة الفلسطينية انساب همس النجوم من نافذة الزنزانة، فبدت اللحظة موحشة كصوت سفينة راحلة.
ماذا يا ترى كان يدور في أذهان الرجال الثلاثة وهم يستعدّون للحظة الاشتباك مع الموت؟ أيّ ذكريات؟ أيّ وجوه؟ أيّ تفاصيل؟ أيّ أمنيات؟ أيّ عواطف؟
في ذلك المساء، زارهم بعض الأقرباء والأصدقاء، وراحوا يحاولون مواساتهم بخجل. فما الذي يمكن قوله لرجال سيعانقون حبال المشنقة بعد ساعات؟ مجرد كلام، لا يغيّر من المعادلات شيئاً.
انتفض فؤاد، قال لهم: توقفوا! ما هذا الذي تتحدّثون عنه؟ هل تعتقدون أننا حين نهضنا للمقاومة لم نكن نعرف خيارنا، أو أقدرانا؟ إننا نعرف، فهوِّنوا عليكم، إننا لا نريد تعزية أو مواساة، ما نريده أيها السادة فكرة واحدة نختصرها بجملة كالقبس: لا تساوموا على أرواحنا وأحلامنا، أحلامنا ليست خيالية، بل واقعية تماماً لهذا نقدّم من أجلها أرواحنا من دون تردد، فاحفظوها ولا تنسوا!
قال محمد: أيها الإخوة، نعرف حزنكم، وندرك صفاء قلوبكم، لكن خيارنا هو خيار الضرورة، تعويض عن تخاذل «العرب». إننا اليوم نزرع فكرتنا على سفوح فلسطين وننقشها على جبين عكا، ونرسلها مع أمواج البحر لتمضي حيث تشاء، فلا تساوموا على فكرتنا.
بقي عطا صامتاً، ثم رفع رأسه ونظر في عيون الزائرين وقال: غداً سنرتقي على أعواد المشانق ليس فقط لأن الإنكليز هنا، لا بل أيضاً لأن «عرباً» هناك شاركوا في تجهيز منصّة إعدامنا، فتذكروا أن هناك دائماً دمٌ فلسطيني سيعيد المجد إلى الحقيقة، لا تنسوا ذلك!
صمت الزائرون يغمرهم الخجل، فحين يختار الرجال مواجهة الموت فهم لا ينتظرون تعزية، بل ما يؤكد أن خيارهم لم يكن عبثياً أو خاطئاً، أو مجرد مغامرة طائشة.
حمل الزوّار الوديعة الثقيلة، وغادروا.
نظر الرجال الثلاثة في عيون بعضهم بحنان وقوة، قالوا: ها نحن نذهب نحو أقدارنا، فهل سترتجف القلوب؟
في الحقيقة لم يقولوا شيئاً، فقط ومض البأس في العيون، ومن عتم الليل سرى صوت شجيٌّ راح يسافر بين النجوم في مجراتها البعيدة:
يا ظلام السجنِ خيّم، إننا نهوى الظلاما
ليس بعد الليلِ إلا، فجرُ مجدٍ يتسامى
أيّ فجر ذاك الذي كان يقصده الرجال الثلاثة وهم يذهبون إلى موتهم الباسل مع الصبح كالفلق؟
تعانق الرجال كما تليق بهم لحظة القرارات الحاسمة، لم يستجدوا، لم يطلبوا الرحمة. لم يستنكروا، فهم يدركون أن أحلامهم لن تكون لها قيمة إذا لم تكن معادلةً للحياة، والخيار في مثل هذه الحالة لا يحتمل الالتباس أو المراوغة، كما لا يحتمل المناورات والمساومات والتبريرات الهابطة، كما لا يحتمل الجُبنَ والجبناء أيضاً، إنه يعني حقيقة واحدة: فلسطين هي سيدة البدايات والنهايات، سيدة الأوطان، لهذا فهي تستحق الحياة! فخذي يا فلسطين ما تستحقين وكوني، إننا لا نرحل عنك، بل إليك، فخذي ما شئت وكوني!
كان محمد جمجوم يمسك قضبان الزنزانة ويغازل نجوم الليل والسماء، ثم استدار، نظر في عيني فؤاد الأليفتين وقال: يا فؤاد، يا رفيق الحياة والمجد جهّز لنا الحنّاء. فعندنا في جبال الخليل، حين نواجه الفرح نُحنّي أيدينا، غداً سنذهب لحتفنا كما يذهب الرجال، سنستقبل موتنا كما نستقبل الحياة، هي فلسطين تنادينا يا فؤاد، فكيف لا نلبي نداءها بالفرح، أحضر لنا الحنّاء!
البأس والليل يغمران أعماق الرجال كأغمار القمح، يكاد أحدهم أن يغطي الآخر بروحه ليحميه، لكنها الأقدار ولحظة الواجب المستحيل.
جهّز فؤاد الحناء والدموع لا تفارق عينيه، كان ينظر إلى محمد وعطا من دون أن ينتبها، في قلبه تندلع أنهار الحب والأسى، راح يتابعهما وهما يخضبان أيديهما بالحناء ويبتسمان، فبدت كسهول مرج ابن عامر، عامرة بالخير والقمح والمواقد،
من أقصى الأفق الشرقي استيقظت شمس صباح الثلاثاء، تهادت صاعدة، فأضاءت سفوح الجليل والخليل بأحزان يافا وحيفا والقدس وغزة ورائحة البحر، مرت الرياح تحمل أحزان فلسطين كلها، وأيضاً روحها الحرة وهي تودع أبناءها. حملت أسطورة الرجال إلى كل مدينة وقرية وصخرة وشجرة وموجة، كما حملتها أيضاً إلى مدن العرب البعيدة القريبة.
نهض الرجال الثلاثة بعزم الأرض، عانقوا بعضهم بما يليق، وقالوا: سلاماً عليك فلسطين، سلاماً على قلوب أمهاتنا وجباه آبائنا، هيا بنا فهذه ساعة مجدنا يا رجال، فلا وقت للدموع، هو الموت الشامخ فقط، هيا أيها الرجال!
من بعيد، جاء صوت الآذان والتكبيرات من مساجد عكا كموّال وداع، فيما أجراس الكنائس تعزف لحن الوفاء، في تلك اللحظات كانت فلسطين تنهض على خبطة أقدام أبنائها الأوفياء وتودعهم!
قال محمد: ها فلسطين تودعنا، فهيا بنا نلاقي وداعها بما يليق بها!
عند الساعة الثامنة تماماً، بدأ الرجال يتسابقون إلى حبال المشنقة في ساحة سجن القلعة في عكا، ومعهم يتصاعد موّال شاسع كشعاع الضوء:
ويقول محمد أن أولكم خوفي يا عطا أشرب حصرتكم
ويقول حجازي أنا أولكم ما نهاب الردى ولا المنونا
الساعة الأولى: ساعة النفس الأبية!
في تلك اللحظة الفاصلة، عند الساعة الثامنة كان ابن صفد فؤاد حجازي، يصعد دروب الصباح وسفوح فلسطين نحو ذروة الإشراق بكامل جماله كطير حمام،
سار فؤاد كالفجر إذا يسري، ودّع رفيقيه، فبكى الرجال، ففؤاد هو أصغرهم، فكيف تتجاوز الطبيعة نواميسها، وتأخذ أصغرهم أولاً، إنهم أَولى بحق الرحيل، فقد عاشوا أكثر منه قليلاً.
لاحت صفد في قلب فؤاد كقبس، فانحدر على سفوحها حتى غمر أقدامه في البحر، كان الموج يواصل رحيله الأزلي، فيما فؤاد يجر قيده ورأسه يطاول سماء عكا، عيناه كسيف الصحراء، سار وهو يهمس وكأنه يحدث أمه وشعبه «يوم شنقي يجب أن يكون يوم سرور وابتهاج، وكذلك يجب إقامة الفرح والسرور في يوم 17 حزيران من كل سنة. إن هذا اليوم يجب أن يكون يوماً تاريخياً تلقى فيه الخطب وتنشد الأناشيد على ذكرى دمائنا المراقة في سبيل فلسطين والقضية العربية، إذا كان إعدامنا نحن الثلاثة يزعزع شيئاً من كابوس الانكليز على الأمة الكريمة فليحلّ الإعدام في عشرات الألوف مثلنا لكي يزول هذا الكابوس عنا تماماً».
هكذا صاغ فؤاد حجازي المعادلة: المهم أن نجد قضية نبيلة قبل أن نموت. وبعدها ليكن ما يكون، هي المعادلة ذاتها التي أعاد كتابتها بعد أربعين سنة ابن عكا غسان كنفاني بحرارة الدم الفلسطيني ووضوحه ذاتهما.
صعد محمد درجات منصّة الإعدام ثابتاً كإله، رفع رأسه نحو السماء ثم عاد إلى البحر. كانت النوارس تحلّق في المدى، شدّ عزمه، ودّع أمنياته، وألقى بيانه:
أنا ساعة النفس الأبيّة الفضل لي بالأسبقيّة
أنا بِكر ساعاتٍ ثلاثٍ كلّها رمز الحميّة
بنتُ القضيّة إن لي أثراً جليّا فـي القضيّة
أثر السيوفِ المِشرفيّة والرماح الزاغبيّة
أودعت في مهج الشبيبةِ نفحةَ الرّوح الوفيّة
لا بد من يوم لهم يسقي العِدا كأس المنيّة
قسماً بروحِ فؤاد تصعد مـن جوانحه زكيّة
تأتي السواءَ حفيّة فتحلُّ جنّتها العليّة
ما نالَ مرتبةَ الخلودِ بغير تضحيةٍ رضيّة
عاشت نفوسٌ في سبيلِ بلادِها ذهبتْ ضحيّة!
دفع بعدئذٍ الجندي الكرسيَّ الذي كان يقف عليه فؤاد. فانتفض الجسد، اهتزّ قليلاً ثم سكن وراح يتأرجح في سماء عكا كقمرٍ يرحل في مجرات الكون، فقط، صوت الرياح تعاكس أمواج البحر الحزين. وهي تتقدم نحو جدران السجن وكأنها تود لو تصل لكي تغسل أقدام الرجل الذي يعطي في هذه اللحظة للحياة معنى وقيمة.
الساعة الثانية: ساعة الرجل العتيد!
الساعة التاسعة صباحاً، تهيأ عطا ببأسه العالي ونهض، في تلك اللحظة وعلى غير توقعٍ نهض أيضاً محمد جمجوم وبحب الرجال وعنادهم دفع عطا إلى الوراء وقال: هي ساعتي يا عطا، فلا كنت قبلي، لكن عطا أصرّ على أن يتقدم أولاً. قال: لا تفعل يا محمد، أقسمت عليك بجبال الخليل. لا تفعل!
لكن محمد مضى كحصان يقطع الصحراء، نادى على الجندي: فكّ قيدي أيها الجندي هو دوري الآن، وقف الجندي حائراً. مرتبكاً خائفاً، وفي رأسه سؤال بسعة الكون: أي رجال هؤلاء! وقف متردّداً لكنه في النهاية رفض طلب محمد، فوفقاً للقرار الذي يحمله فإن عطا هو الثاني في التنفيذ.
استعر الغضب في قلب محمد فشدّ عزمه حتى كسر قيده، ومضى تاركاً عطا يدور في قيده كفهد أسير، كانت الدموع تموج في عينيه كالغيم وأيضاً بالغضب والحب والألم، فكيف ينتزع منه محمد شرف الأولوية. إلا أن محمد، مشى بعزمه ووضوحه، ودّع عطا بعينيه الحالمتين قال: لا تبك يا عطا، عش ساعة أكثر، ومضى! تناهت إلى أسماعه أصوات المآذن والكنائس، كان يمشي وفي عينيه وجه أمه البهي بمنديلها الأبيض، وهي تغني:
السجن إلك قفص من ذهبْ
والقيدْ إلك خلخالْ
وحبل المشنقة كردانك
يا زينة الأبطالْ
تذكر محمد الخليل. تذكر شموخ الجبال وكروم الدوالي. قال: أنا ابن أمي وابنك يا الخليل، ولن أكون إلا كما تكون جبال الخليل!
صمت قليلاً ثم أضاف وهو يمشي صاعداً نحو المنصة: «الحمد لله أننا الذين لا أهمية لنا نذهب فداء الوطن لا أولئك الرجال الذين يستفيد الوطن من جهودهم وخدماتهم».
راح محمد يصعد درجات المنصة بعزم فلسطين، وقف، نظر نحو الأنشوطة وابتسم، ثم نظر نحو البحر. ثم في وجوه الجنود الباهتة، نظر إلى وجه فؤاد الصامت وهو يرنو في الأنشوطة نحو بحر عكا. بحر فلسطين، ودعه، ثم ألقى بيانه بكل بأس:
أنا ساعة الرجل العتيدِ أنا ساعة البأسِ الشديدِ
أنا ساعة الموتِ المشرِّف كلّ ذي فعل مجيدِ
بطلي يحطم قيده رمزاً لتحطيم القيودِ
زاحمت من قبلي لأسبقها إلى شرف الخلودِ
وقدحت في مهج الشباب شرارة العزم الوطيدِ
هيهات يخدع بالوعود أو يخدّر بالعهودِ
قسماً بروح محمد تلقى الردى حلو الورودِ
قسماً بأمِّك عند موتك وهي تهتف بالنشيدِ
وترى العزاء عن ابنها في صيته الحسن البعيدِ
ما نال من خَدمَ البلاد أجلّ من أجر الشهيـدِ!
تأرجحت قامة محمد كغصن دالية يتعربش صدر عكا، ومن هناك انساب على جدار السجن كموالٍ بعيد، مشى فوق الأسوار وانحدر حتى لاقى البحر، فاستقبلته النوارس كوعد قادم من سفوح الخليل، أخذته ومضت به في عرض البحر.
فيما الولد الكنعاني يتابع رحيل محمد جمجوم، بقي سؤال يضج في رأسه: ما الذي كان يقصده محمد بكلامه؟ كيف يقول: «نحن الذين لا أهمية لنا نذهب فداء للوطن، لا أولئك الرجال الذين يستفيد الوطن من جهودهم وخدماتهم»، عبارة عميقة وشاسعة، فهل هي رسالة لأجيال قادمة كي لا تنسى، وهل سيدرك الرجال الذين سيأتون بعد عقود هذا الثمن الغالي، فيحملوا الوعد ويكونوا ملح الأرض. لا مجرّد سماسرة وتجار؟
الساعة الثالثة: ساعة الرجل الصبور!
الساعة العاشرة صباحاً، الدموع تجلّل وجه عطا، كان غاضباً حدّ القهر، أحسّ بنفسه وحيداً على وجه الأرض وهو يشاهد جسدَي فؤاد ومحمد الحبيبين يتأرجحان في الفراغ. لقد كانا قبل ساعات حقلاً من قمح وأمنيات وعناد. تقدّم عطا كعاصفة، قال جاء دورك يا عطا فانهض والحق بأخويك! نهض وراح يسابق قيده وهو يردّد: لم فعلت بي ذلك يا محمد جمجوم. لقد كان دوري؟ لم جعلتني أشرب حسرتك كما شربت حسرة فؤاد، لا تمضيا من دوني، انتظراني ها أنا قادم إليكما، سنمضي معاً.
سار عطا بعزيمة فلاح فلسطيني عنيد، فهو ابن الأرض والجبال، هناك على سفوح الخليل ركض طفولته، زرع الدوالي، حرث الأرض وزحزح الصخور لكي تعطي الأرض ما لديها من جمال وخير، كان يمشي ويتذكر، فوق البحر تراءى له وجه أمه الباسل الحنون. ابتسم قليلاً، نظر في عينيها وقال هامساً بعزم الرجل الصبور:
زغردي يمّا… لا تحزني يوم انشنق
روحي أنا يمّا عن هالوطن ما بتفترق
وفّري دموعِ الحزن يمّا لا تلبسي الأسود
والشمس لما تهلّ لازم يزول الليل يا معوّد
اسمي عطا وأهل العطا كثار
والجود لأرض الوطن واجب على الثوار
سَلمي على الجيران سَلمي على الحارة
حمدان وعبد الحي وبنت العبد سارة
عمر الوطن يمّا ما بينسى ثوّارَهْ
وجرح الوطن بمتد وبتفيض أنهاره
راجع بطلِّة فجر حامل معي أنواره
حتى نضوّي الوطن ويعودوا أحراره
من رسالة عطا إلى والدته باللهجة العامية .
وكأن هاتفاً وصل إلى أمّ عطا، يقول لها: «يمّا… زغردي»، فرفعت منديلها الأبيض كغيمة فخفق في سماء الخليل، وأطلقت زغرودة تودّع وليدها: مع السلامة يمّا… إنت وفؤاد ومحمد، أودعتكم لله يمّا!
صعد عطا درجات المجد نحو خياره الحرّ، نظر إلى وجه فؤاد، وقبَّله من بعيد، ثم إلى وجه محمد وقبّله، ثم رفع رأسه حتى عانق الأنشوطة، نظر إلى البحر وراح يلقي بيانه الأخير:
أنا ساعة الرجل الصبور أنا ساعة القلب الكبير
رمز الثبات إلى النهاية في الخطير من الأمور
بطلي أشدّ على لقاء الموت من صُمِّ الصخور
جذلان يرتقب الردى فاعجب لموت في سرور
يلقى الإله مخضّب الكفّين يوم النّشـور
صبر الشباب على المصاب وديعتي ملء الصدور
أنذرت أعداء البـلاد بشرّ يـوم مستطير
قسماً بروحك يا عطا وجنّة الملك القدير
وصغارك الأشبال تبكي الليث بالدمع الغزير
ما أنقذَ الوطن المفدّى غيرُ صبّار جسورِ
المقاطع الشعرية الثلاثة الواردة أعلاه من قصيدة الشاعر إبراهيم طوقان «الثلاثاء الحمراء» .
مع غروب شمس يوم الثلاثاء السابع عشر من حزيران عام 1930 كان الموج يوشوش الشاطئ بدفء حزين ثم يعود إلى البحر، فيما تلوح ثلاثة أجساد في غبش المساء كأشرعة تنتظر رياح الليل لتمضي في عرض البحر إلى وطنها المشتهى، كان همس الرياح في ذلك المساء يشبه موالاً:
مشينا الدرب وخضنا الصعب وعدينا
لأجل الناس شربنا الكاس وصابرينا
لأجل الأرض يهون الصعب وصابرينا
عانقت عيون الولد الأجساد الثلاثة طويلاً، كانت تملأ مساحات السماء، تحركها الريح قليلاً، لكنها دائماً كانت تعود لتواجه البحر، لحظتها لمعت في عقل الولد فكرة على شكل سؤال: هل هي مجرد صدفة عابرة أن تتوحد هذه الأجساد الثلاثة، واحد من صفدٍ وإثنان من الخليل على منصة الإعدام أو المجد في حضن عكا، أم هي أقدار التكوين وطريقة الفلسطيني في تحديد المصائر وضبط إيقاعاتها حتى في المستقبل البعيد؟
ركض الولد، راح يتعربش سفوح الجليل. كانت روحه تبكي. لكنه عنيد، فهو دائماً يصعد، يغمره تعب المسافات، إلا أنه لا يتردد، كان يمضي كفرخ شنّار، يسري على الدروب، يقطف الندى ليرتوي، أي حزن يسكن قلب هذا الولد الكنعاني وأي انتظار! أيّ خوافي تدفعه ليشرِّق يوماً نحو مطلع الشمس ثم يغرِّب نحو مغيبها، يتبعها فلا تغيب عن عينيه البنيتين.
عند صخرة تقيم على سفوح الجليل المطلة على البحر في الأفق البعيد البعيد، أسند أحلامه، راح يتابع ثلاثة أجساد فلسطينية تعبر الأفق كأشرعة راحلة، أخذ يداعب شجيرات برّية تحركها رياح قادمة من الجنوب. تتماوج على السفوح هنا وهناك أشجار صنوبر، خرّوب وبلوط برّي وزعرور، أشجار رمّان منسية تعانقها الحشائش والأشواك، شجيرات زعتر.
في السهول الممتدة، تنوس أضواء خيام الغجر الساهرين حول المواقد، ربما يقصّون على أطفالهم حكايات الليل والغجر الصاعدين إلى السماء.
مرّت في بال الولد وهو يتذكر خيام اللاجئين حكاية هندي أحمر مزّقت وعيه بنادق مستعمر أبيض بينما كان جالساً يدخن «القلموت» غليون سلامه الروحي.
يقول الهندي لطفله الذي تزين رأسه ريشتان بديعتان: لا تحتقر الطبيعة، قدّسها فهي أمّك الكبرى، لا تلعن السهل ولا الصحراء. ولا عواصف الثلج. ولا فيض النهر، تذكر أن روحك ربما جاءت من صقر أو سنجاب أو حجر. أو من قطرة ماء تنحدر مع النهر نحو البحر لتصعد من هناك إلى السماء ثم تعود قطرة مطر من جديد، احترم الصيد الذي تصطاده لتعيش، تلك هي هبة أمّنا الطبيعة، لا تلوث الماء ولا الهواء، لا تقطف زهرة لمجرد العبث، لا تحبس طائراً، أو ظبياً، وفي الليل أشعل نيرانك لتضيء، لا تردّ إنساناً يأتيك ليتدفأ بنارك. إنها ليست لك وحدك.
قال الولد الكنعاني، هذا هو حال الإنسان الذي يقدس الأرض، وهو حال الفلسطيني ذاته في علاقته مع الأرض يقدّسها، لهذا كان عليهم أن يفصلوا الفلسطيني عن أرضه، أن يقتلعوه منها، كي يدمروا وعيه وذاكرته وارتباطه.
صمت قليلاً ثم قال: سأشعل الليلة ناراً.
أخذ يجمع القش والحشائش الجافة، ثم قدح حجارة الصوان فاشتعلت النار، من سفح مقابل نظر الشيخ فرأى ناراً، فآنست روحه، قال: هذا هو الولد الكنعاني يضيء السفوح.
شاع الدفء، اقترب الولد من النار، فأضاء وجهه وهج ناريٌّ، داعب النار بعودٍ، تصاعدت شرارات وتلاشت في عتمة الليل. غير بعيد رأت العصافير ضوء النار، فابتهجت، كانت النار تؤنس وحشتها، فهبطت من أعماق شجرة الزعرور القريبة واقتربت، حفرت في التراب قليلاً. وغفت على حكايات النار قرب ولد يملؤها بالدفء، غداً ستحلق مع الصباح في الفضاء الممتد، ستذهب نحو البحر، ثم عصراً تعود إلى أعشاشها بين أغصان الزعرور والسرو.
جاب الولد الشواطئ بعينيه، ذهب نحو التلال ومعه كانت عكا تصعد وكأنها تسافر عبر «بوابة الشام» مع رياح الشمال، ثم تنثني جنوباً إلى بوابتها البحرية التي تنفتح على بحرها الذي لا يخيفها.
تتألق ذاكرة الولد الكنعاني، وتدور في الأعالي في رقصة صوفية، وكأنه في حضرة الشيخ التونسي علي نور الدين اليشرطي الذي قصد عكا ومعه أحلامه وإيمانه، قال بأن النبي يونس قد ظهر له في منامه وأمره بزيارة الأرض المقدسة والإقامة في عكا، فسافر إلى القدس في عام 1948، إلا أن عاصفة بحرية أجبرته على الرسو في عكا، فاتخذ من جامع الزيتونة مقراً له، وهناك أبدع طريقته الصوفية الشاذلية.
تابع الولد اشتعال النار فيما ذاكرته تقطع المسافة بين حزيران 1930 وأيار 1948، 18 سنة مرّت على ذلك اليوم الذي صعد مع إشراقته ثلاثة رجال إلى منصة الشرف، رجل أبيٌّ ورجل عتيدٌ ورجل صبورٌ.
وصل الشيخ حيث تتوقد النار، ألقى التحية وجلس يتابع الليل والبحر.
غمر الدفء الولد قليلاً، فأراح ظهره على الصخرة، ومدّ قدميه، أرسل وعيه نحو شواطئ بعيدة، عاد إلى البحر، تذكر ذلك اليوم من أيار عام 1948، فلا يزال طازجاً في وعيه، كانت القوارب تندفع في عرض بحر عكا تحمل أكداساً من البشر. نساء وأطفالاً وشيوخاً، كانوا يتعربشونها ويمضون إلى أقدارهم في بحر موحش، عيونهم لا تفارق الشاطئ، كانت المدن تبتعد وتغيب، تتلاشى في دموع القهر والخذلان، كانت عكا تبتعد وحيفا ويافا. كانت جميعها تبتعد، كانت السفوح والأشجار تصبح أصغر وتذوب في زرقة سماء داخنة. فيما تأتي أصوات القذائف من بعيد، والدخان يتصاعد من بقايا البيوت وحقول القمح.
غابت عكا وراء مياه البحر المتلاطمة.
انحدر الولد بذاكرته وعاد يمشي حتى وقف أمام أسوار المدينة، وقف أمام جدران سجنها، فغامت عيناه، فيما سرب نوارس يعبر سماء سجن القلعة، فخيِّل إليه نشيد شجي ينساب عبر الأسوار ويمضي إلى البحر:
يا ظلام السجن خيِّم إننا نهوى الظلاما
ليس بعد الليل إلاّ فجر صبح يتسامى
لا شعورياً، راح يردّد النشيد بصوت خفيض، ثم اشتد صوته قوة، حتى اختلط بهدير الأمواج التي تضرب الأسوار برتابة.
في تلك اللحظة وفيما كانت النار والذاكرة تشتعلان، صعدت من أعماق البحر وعتم الليل، خيالات ثلاثة رجال أو أقمار، ساروا صعوداً نحو سفوح عكا، فقد آنسوا على السفوح ناراً، اقترب الرجال، وغير بعيد وقفوا، فأصابت الدهشة الشيخ، قال: يا الله، من هؤلاء الرجال القادمين من البحر؟
نهض الولد وقلبه يخفق كالضوء، نظر إلى قامات الرجال وهي تتماوج كالضباب، نادى: من أنتم؟
ساد صمت مهيب، ثم جاءه صوت عميق وأليف وواضح:
أنا ساعة النفس الأبيّة الفضل لي بالأسبقيّة!
ارتجف الولد، غمرته موجة عاتية من الدفء، ابتسم بحجم فلسطين. قال أنت فؤاد حجازي إذن.
ثم نظر إلى الرجل الثاني: وأنت من تكون؟
جاءه الصوت كعصف الرياح ووقع المطر:
أنا ساعة الرجل العتيد أنا ساعة البأس الشديد!
ابتسامة كفلق الصبح أضاءت وجه الولد والشيخ الكنعاني معاً قالا: وأنت محمد جمجوم.
نظرا إلى الرجل الثالث الواقف بقامة فلاح… وأنت؟
فجاءهم صوت صاعد من عمق الأرض، جميل كدالية عنب، شامخ كجبال الخليل:
أنا ساعة الرجل الصبور أنا ساعة القلب الكبير!
رقص الولد وأرسل الشيخ وجهه نحو عكا، قال: أنت عطا الزير.
وقف الرجال قليلاً، ثم سألوا: وماذا تفعلان في هذا الليل على هذه السفوح؟
قال الولد: نمضي ليلنا حيث تكون عكا.
نظر الرجال في وجوه بعضهم، ثم نظروا في وجه الولد الكنعاني، ثم في وجه الشيخ، فأضاءت وجوههم موجة حنان، ثم عادوا ونظروا في عيون بعضهم وهم يبتسمون ثم قالوا: هيا نعود إلى بحرنا، ستكون عكا بخير، فلم يذهب موتنا عبثاً. استدار الرجال وانحدروا كالضباب نحو البحر وغابوا في المدى.
بقي الولد والشيخ يتابعان رحيل الرجال، فيما كان قلباهما يندلعان بأنهار الفرح التي راحت تفيض حتى لامست وجوه الرجال العائدين إلى البحر.
لا يدري الولد كيف تذكّر لحظتها تلك الجملة التي أطلقها بعد سنين كاتب فلسطيني من عكا بشظايا جسده:
«هنالك رجال ينبتون الآن في أرض المسؤولية كما ينبت الشجر في الأرض الطيبة حريصون على إعادة المجد للكلمة».
كانت الأمواج تضرب صخور الشاطئ، ثم ترتد نحو البحر، اقترب الشيخ من الولد، وجلس أمام النار ومن دون أن تفارق عيناه البحر، قال: «من هنا تعربش الناس في أيار البحر على أمل أن يعودوا ذات يوم إلى عكا… بعضهم اختطفه البحر، وبعضهم واصل التجذيف حتى صور وصيدا، ومنذ سبعين حولاً، وهم ينتظرون».
قال الولد: لكن عكا لا تزال هنا. فهي لا تغادر بحرها، إني أراها تلُمُّ الأصداف على الشاطئ، تستمع لوشوشاتها، وتبدع منها لون الأرجوان. أحياناً تغنّي. وأحياناً تصمت، فهل تعتقد أيها الشيخ العارف أنها ستنسى؟
صمت الشيخ، تأمل النار، ثم قال بوضوح: أيها الولد إن المدن لا تنسى، فقط تنسى في حالة واحدة. إذا نسيها سكانها. ألم تعش في الزمن الذي مات فيه الرجال في الشمس، وزمن الرجال والبنادق، وزمن الفرق بين خيمتين، خيمة الاستجداء وخيمة البنادق؟ ألم تسمع بالطفل الفلسطيني الذي لا يريد أن يتجاوز السادسة من عمره؟ لقد اغتالوه في لندن لأنه كان يقول: بوصلتي فلسطين. وأيّ بوصلة لا تؤشر إلى فلسطين، لا تعنيني، لإنها ستكون مشبوهة!
تذكر أيها الولد مهما كانت اللحظة ملتبسة وهابطة، إلا أن هناك من سينبت فجأة من أرض فلسطين، هكذا كالزرع والحنّون ويعيد المجد إلى الحقيقة!
صمت الشيخ قليلاً ثم تابع: سأحدثك يوماً عن رجل اسمه عبد القادر الحسيني، لقد مضى بدوره إلى حتفه كالرجال الثلاثة، كان يعرف مصيره مسبقاً، لكنه لم يتردّد.
لحظتها أشرق وجه الولد الكنعاني، قال: لقد مرّت السنون، وأنا لم أنسَ عكا، في الليل أحلم بها، أذهب إليها!
قال الشيخ: إذن عكا لن تنسى!
نظر الولد في عينَي الشيخ عميقاَ، ثم عاد يغرق في مياه البحر.
حرّك الشيخ النار بعود فتأجّجت.
بعد صمت عاد الولد يسأل: هل سيعود أهل عكا إليها؟
ابتسم الشيخ لوهج النار وقال: نعم، سيعودون كما عادت أقمار الرجال الثلاثة هذا المساء. هكذا تقول أقدار التكوين المحفورة على جرار الفخار الكنعاني الأول. فذاكرة فلسطين الكنعانية أيها الولد عميقة وممتدة، قد تصمت، قد تحزن، وقد لا يعجبها ألف موقف وألف قول. لكنها لن تنسى ذلك الصباح الحزيراني حين تأرجحت قبالة بحرها ثلاثة أجساد تشبه أشرعة سفن كنعانية، ذلك عهد مواسم القمح والبحر والزيتون.
صمت الشيخ قليلاً، سافر في أعماق الليل، مضى وهو يغنّي لنفسه وللبحر، راح يجوب سفوح الجليل المقمرة، يمشي بين أشجار الصنوبر واللوز والبلوط والزيتون، وكأنه يحرسها.
تنهّد الولد وكأن صخرة عاتية قد انزاحت عن قلبه، أسند ظهره إلى سفوح الجليل ومضى يركض بأمنياته على دروب النجوم.