مواقف التصعيد الحريرية العودة عن الخطأ فضيلة مطلوبة

علي بدر الدين

لم تأت الخطابات التصعيدية المتنقلة مكانياً لرئيس تيار المستقبل سعد الحريري بجديد، أو يمكن وصفها بالإيجابية التي فرضتها ظروف استثنائية على علاقة بمستقبله السياسي، كما لم يكن موفقاً بتوجيه رسائله السياسية المغلّفة بأطباق طائفية مذهبية دسمة إلى من يعنيهم الأمر في الداخل والخارج، إنْ لجهة التوقيت أو لجهة الغاية الاستنهاضية، بعد تداعيات نتائج الانتخابات البلدية والاختيارية الإقصائية لتياره كما حصل في طرابلس، والهزيلة في بيروت وغير الواقعية في صيدا التي احتاجت إلى خلطة حزبية مصطنعة ما كانت لتحصل لو أنّ التيار وحلفاءه امتلكوا القوة الانتخابية القاهرة القادرة على الإقصاء والإلغاء.

ويبدو أنّ الحريري ونوابه وفريقه السياسي الحرصاء على إعادة الإمساك بزمام الأمور رغم الإخفاقات على أكثر من صعيد تزامناً مع رفع عصا التهديد والوعيد من الداعم الإقليمي بالبحث عن زعامة سنية بديلة أو على الأقلّ عن الرديف الإحتياطي الذي يمكن استعماله عند الضرورة وجدوا أنّ الفرصة متاحة وأنّ مرحلة التأزّم الداخلي والخارجي مهيّأة لإعادة التقاط الأنفاس وخلط الأوراق والتأثير في البيئة الحاضنة وربما تعيد تحريك المياه الراكدة بعد تراكم الخسارات والإنكسارات على أكثر من جبهة وقد تعيد للتيار وزعيمه حجمهما المفقود من خلال شدّ العصب المذهبي وتحميل الفريق الآخر أياً يكن مسؤولية الانهيار الانتخابي وتبعاته التي كشفت الأقنعة وحدّدت الأحجام والمسؤوليات.

يخطئ الحريري إذا اعتقد أو فكّر أنّ مواقفه التصعيدية ورمي سهامه باتجاه فريق بعينه يعيد له بعضاً من مجده السياسي الضائع أو ينجح في شدّ عصب جمهوره المتبقي أو إعادة الذين غادروا صفوف التيار ليغرّدوا في أسراب شاءت لها اللعبة السياسية أو الأقدار أو القصور في مقاربة الوقائع السياسية والطائفية والمذهبية أن تغرّد خارج سياق من أنتجها وحماها ووظفها منذ أن كانت فرخاً لتتحوّل في ما بعد إلى كواسر جارحة، صدق من قال: من يزرع الريح يحصد العاصفة. كما أنه من الخطأ القاتل محاولة الإستفادة من السياسة الأميركية الجديدة القديمة المعادية للمقاومة والتي تترجمها بفرض عقوبات وقيود مالية وإعلامية ليست وليدة الساعة لأنّ هذه السياسة معروفة ومتوقعة تجاه المقاومة ومن يدعمها ويحضنها، وأن ّاستهداف المقاومة له تأثيراته وانعكاساته السلبية على كلّ اللبنانيين ولن تستثني أحداً حتى الذين يتمترسون خلف جدار من الأحلاف والمحاور التي تمتلك التأثير السياسي والقوة العسكرية، لأنّ الهيكل إذا سقط سيتشظى منه الجميع وقد تكون العودة عن الخطأ والخطايا المكدّسة بمواقف التحريض وخطابات التوتير والتشنج فضيلة مطلوبة قبل فوات الأوان، هي ليست ضعفاً أو هروباً من المسؤولية بل تكمن فيها القوة والجرأة والشجاعة، وقد تساهم في إعادة عقارب الساعة إلى الانتظام، وفي نزع فتائل التفجير المعدّة بإحكام من قبل أعداء لبنان وشعبه وجيشه ومقاومته واستقراره الأمني، فالتجارب أثبتت أنّ المواقف السياسية التصعيدية والرهانات الخارجية والنقر المتواصل على الوتر الطائفي المذهبي سقطت ولم تنفع أصحابها أو تسترجع لهم الأمجاد الضائعة أو زعامات أيام زمان «أنا أو لا أحد» أو تعدّل في الموازين التي قلبتها السياسات الخاطئة على الأقلّ في مرحلة مصيرية خطيرة كالتي تشهدها المنطقة ولبنان من ضمنها، وهو الذي لم يغادر عين العاصفة وسيبقى يدفع الأثمان الباهظة مع كلّ هبّة ساخنة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً باعتباره الحلقة الأضعف على حلبة الصراع المحتدم الذي لا يرحم، ولهذا كله أسبابه وظروفه السياسية الذاتية والموضوعية الداخلية والخارجية، وهي للأسف لم تتغيّر منذ أن تكوّن هذا النظام السياسي الطائفي الذي أريدَ له أن يظلّ غارقاً في الانقسام والفساد والاهتزاز السياسي والأمني، أو يبقى على فوهة بركان مشتعل قد ينفجر كلما أراد مشغلوه خاصة أنّ قاعدته قائمة أساساً على الصراعات والحروب الأهلية خدمة لمصالح الزعماء والطوائف والإقطاعيات، وقد أنتجته الإحتلالات والإنتدابات التي حكمته أو تحكّمت بمصيره على مدى قرون من الزمن ولم تنته فصولها بعد، وتركت لبنان سويسرا الشرق ودرّته في دائرة الخطر وإنْ تبدّلت أساليب الحكم والتحكّم والسيطرة وتغيّرت الأسماء والوجوه والألقاب وتعدّدت الأحزاب وتنوّعت المصطلحات.

وما زاد الطين بلة أنّ العهود والحكومات والزعامات والطبقات السياسية المتعاقبة والطوائف والمذاهب حافظت بأمانة ومسؤولية على نهج السلف غير الصالح وضاعفت من انغماسها الإفسادي والمصلحي والإنقسامي والإقصائي والإلغائي ولم تسع يوماً إلى بناء وطن أو الإحتكام إلى المؤسسات أو اعتماد قياس العدالة والحرية لللبنانيين، بل ساهمت عن قصد وعن سابق إصرار بتعميم الجهل والتخلّف وممارسة سياسة الهيمنة والتسلّط والدرع الوقائي والاستباقي لتحافظ على امتيازاتها ومكتسباتها.

ويسجل للطبقة الحاكمة أنها منذ اتفاق الطائف، أيّ ما يقارب الربع قرن نجحت في تثبيت دعائم وجودها السياسي والطائفي والمذهبي، وإنْ بنسب متفاوتة، كما في ترسيخ زعائميتها وإعداد جمهور من الموالين لها وليس للوطن، للإستعانة به عند اللزوم، أو من أجل التغيير نحو الأفضل بل في مواجهة خصوم مفترضين إذا ما حاولوا الإقتراب من المصالح والخاصيات، ونجحت أيضاً في ابتداع معارك سياسية وطائفية ومذهبية وهمية وإغراق جمهورها بنزاعات وصراعات لا فائدة مرجوّة منها، لكن إرادة أولياء النعمة تقتضي أن يتحوّل هذا الجمهور إلى حطب في مواقد هؤلاء وفق المثل الفرنسي «من يدفع يأمر»، وزجّه في صراع المصالح السياسية الداخلية الضيقة، في حين أنّ هذه الطبقة تمسك المجدين السلطوي والمالي من طرفيه. والأكثر خفة واستهتاراً بهذا الشعب أنه كلما خفت نجم أي سياسي أو طائفي وارث بالحياة أو بالوفاة أو بقوة دفع محلية أو خارجية تبتدع مكونات هذه الطبقة بعضها أو معظمها مشكلة أو قضية على قاعدة «خالف تعرف» انكفاء أو استقالة من حكومات ومسؤوليات معدومة أو من نيابة ممدّدة بهدف الاعتراض وتسجيل المواقف والنقاط ولأجل إعادة هيبة مفقودة أو سلطة ضائعة أو أقله إعادة البريق واللمعان اللذين كاد أن يضيع وهجهما ودورهما وسط التحالفات الحزبية والطائفية الكبرى. والأمثلة القريبة والبعيدة حاضرة في ذاكرة اللبنانيين مع إدراكها ومعرفتها بأنها لن تغيّر من واقع الأمر السائد شيئاً وأنّ حضورها أو غيابها لا يقدّم ولا يؤخّر وتضطّر أحياناً كثيرة للبحث عن مخارج لورطتها والعودة إلى المربع الأول. وبدلاً من أن تلجأ الطبقة الحاكمة إلى التهدئة وتحصين لبنان في ظلّ احتدام صراعات المنطقة وتمدّد حروبها التي لا تنتهي، فإنها مصرّة على اختراع ملفات خلافية جديدة وتحويلها إلى أزمات عصية على الاتفاق والحلّ وتصويرها للرأي العام أنها مصدر الخطر الحقيقي وعليها يتوقف مستقبل لبنان، وإثارة الضجيج الإعلامي وتكليف الأبواق برمي الإتهامات وتحميل المسؤوليات، كلّ ذلك من أجل التغطية على الفساد والمفسدين ومواصلة سياسة التشبيح والسمسرات من دون النظر بجدية للأخطار المحدقة بالوطن واستهدافه أمنياً أو من خلال تغذية النعرات وإيقاظ الغرائز وبعث الروح فيها للوصول إلى الفتنة القاتلة حتى أصبحت الحوارات القائمة من أجل تخفيف الإحتقان وليس لوأد أسبابه والمتسبّبين به أو من أجل إبطال صواعق القنابل الموقوتة قبل حدوث الإنفجار المدمّر.

لم يعوّل اللبنانيون يوماً أو يراهنوا على قدرة الطبقة الحاكمة بمقاربة الحلول أو الخروج من دوائر مصالحها وعباءات سلطتها أو على قدرتها بإعادة تسلّم زمام المبادرة التي فقدتها منذ زمن بعيد، أو واصلت جنوحها المتمادي واللامتناهي لتحقيق المزيد من مغريات السلطة وفعلها السحري ومدى تلذّذ من يمتطيها بدءاً من عضوية في المجالس البلدية والاختيارية حتى أعلى الهرم السلطوي.

قد يكون الذي يعيشه لبنان في ظلّ الطبقة السلطوية إبتلاء وامتحاناً لقدرة اللبنانيين على الصبر والتحمّل، ولكن إلى متى…؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى