القرار 2170 نفاق أمميّ

نسيب بوضرغم

من الوجهة المبدئية، يعتبر القرار الصادر عن مجلس الأمن الدولي رقم 2170 ضرورياً، لناحية توصيفه كمرجع قانوني دولي، يُستند إليه في عملية محاربة الإرهاب وإنهائه.

لكن هذه الناحية المبدئية تفقد قيمتها عندما يصبح القرار نصاً مقطوعاً عن مسار إجرائي ـ تنفيذي ويتحوّل بالتالي فولكلوراً دولياً، أقدمت عليه الولايات المتحدة لسببين:

الأول: محاولة امتصاص الغضب الشعبي الدولي الذي ظهر في عواصم عالمية كثيرة، والظهور بمظهر المدافع عن حقوق الإنسان ضد جرائم الإرهاب.

الثاني: هو الأساس ويكمن في تبرير الضربات العسكرية الأميركية، وربما التدخل الغربي عامة، فتصريح وزير حرب بريطانيا، مثلاً، من أن مهمة «القوات البريطانية في العراق ستكون طويلة الأمد» ليس لحماية المدنيين من وحشية «داعش»، إذ لو كان الأمر كذلك لقامت أميركا بضرباتها منذ اللحظات الأولى، بل هو لحماية مكاسب استراتيجية في كردستان شكّل اندفاع «داعش» المهووس في اتجاه أربيل خطراً أكيداً عليها.

ما هي هذه المكاسب الاستراتيجية؟ إنها تتوزع على ثلاث جهات:

1 ـ أميركا.

2 ـ «إسرائيل».

3 ـ النزعة الانفصالية الكردية.

أما مكاسب أميركا الاستراتيجية فهي في مصالحها الاقتصادية والأمنية في إقليم كردستان، وقبل ذلك في مصلحتها العليا القاضية بقيام دولة كردية مستقلة، قيمتها أميركياً إنها تقع على تقاطع جيو ـ استراتيجي سداسسي الأبعاد، أما بعده الأول فهو في اتجاه العراق، والثاني في اتجاه الشام والثالث في اتجاه تركيا والرابع في اتجاه إيران والخامس في اتجاه روسيا والسادس في اتجاه وسط آسيا.

إن قيام دولة كردية مستقلة في شمال العراق هدف استراتيجي قديم لأميركا بدأت بتنفيذه على الأرض منذ حصارها للعراق وفرض خطوط العرض الثلاثة ومنع الطيران، تسهيلاً للتحضير لقيام الدولة الكردية في شمال العراق.

إقليم كردستان العراق، سواء استقل عن العراق أم لا، هو ولاية أميركية عبر البحار بالمعنى الاقتصادي والأمني ـ الاستراتيجي، ما يفسر تدخل الولايات المتحدة في ردع «داعش» وردها إلى الحدود المرسومة لها.

أما مكاسب «إسرائيل» فهي في المفاصل الاستراتيجية الأميركية التي نوهنا عنها أعلاه، وهي في أيّ حال متداخلة على نحو عضوي، أي أن ما يخدم أميركا في كردستان العراق يخدم «إسرائيل». لكن يبقى للمصلحة «الإسرائيلية» بعدٌ خاص، ذلك أن تقسيم المشرق في المقام الأول، وبالتالي العالم العربي، مصلحة «إسرائيلية»، بل استراتيجية «إسرائيلية» تعود زمنياً إلى ما قبل قيام دولة «إسرائيل» من خلال النظرية اليهودية القائلة بأن استمرار «إسرائيل» هو وسط محيط مقسم منقسم مقتتل مشتعل متخلّف قائم على قاعدة الإتنيات والمذهبيات والطوائف.

إقليم كردستان ليس أكثر من «إسرائيل» الشرقية، إذ دأبت الصهيونية منذ الأربعينات على تحريض الأكراد على التمرد ودعمهم بأسباب هذا التمرد وشروطه، فحين تتدخل أميركا والغرب لضرب «داعش» في لحظة عدم احترامها حدود الإقليم الكردي، فإنها بذلك تحمي مصالحها ومصالح «إسرائيل» الاقتصادية والأمنية. وجود «إسرائيل» الأمني في الإقليم الكردي ليس أقل من تهديد للأمن القومي الإيراني، في المقام الأول، وبالتالي وسيلة للتخريب في الداخل العراقي.

أما مصلحة الانفصالية الكردية فواضحة، وبالتالي كان ضرورياً ضرب قوات «داعش» قبل أن تسقط أربيل وتختلط الأوراق مجدداً، ويقوم إذاك فائض القوة لدى «داعش» ليخرجها من دائرة ارتهانها لأسيادها والذهاب إلى وضع مشروع مستقل، تماماً مثلما فعل بن لادن من قبل.

السؤال: هل التدخل الأميركي ـ الغربي لأجل القضاء على «داعش»؟

كلا، بالتأكيد.

«داعش» وسيلة أساسية في تنفيذ مشروع الفوضى الخلاقة وقيام الشرق الأوسط الجديد، وبالتالي هي باقية طالما أن محور المقاومة لم يفرض انتصاره.

«داعش» في التحليل الجيو ـ استراتيجي، سكين غاصت عميقاً في جسد الأمة السورية وقطعت أوردة، وأتلفت خلايا، وأنبتت جراثيم، وهي الآن في بداية مهمتها، فعلها ذو أبعاد أبعد من حدود المشرق، يصب في ترويض إيران، وتهديم الأكثرية السنية العربية، بفرض المذهب التكفيري، وما الإعدامات التي نفذتها في حق أئمة سُنّة في الموصل وسواها، وفي جرفها الأضرحة والمزارات، ونسفها الجوامع، ونبشها قبور الصحابة، سوى تجسيد لهذا المسار القاضي بتفكيك المذاهب والطوائف وجعلها تغرق بدمائه، فضلاً عن تغييب أي انتماء قومي، وهو الهدف الأعلى لها. فإذا كان الكيان اليهودي هو «إسرائيل الغربية» بالتوصيف الجغرافي، والكيان الكردي المستقل «إسرائيل الشرقية» فإن كيان «داعش» هو «إسرائيل الوسطى» التي ستؤمن الحضور اليهودي في قلب هذا المشرق.

كيف يمكن أن نصدق أن الغرب كله سوف يسمح بهزيمة «داعش»؟ وهل تعني هزيمة «داعش» غير هزيمة المشروع الصهيو ـ أميركي في المنطقة، وفي المقابل انتصار محور المقاومة.

هل يُعقل أن نصدق أن أميركا تهزم أميركا؟!

كل ما فعلته أميركا والغرب، وما سيفعلانه مستقبلاً، هو حماية الكنز الاستراتيجي، دولة الأكراد المستقلة في شمال العراق.

لو أن «داعش» لم يجرفها فائض القوة وتلتزم حدودها التي رسمتها لها أميركا، لما اجتمع مجلس أمن، ولما صدر قرار، ولكان السكين «الداعشي» يذبح الشعب كلّه في العراق والشام وسط صمت العالم.

من الخطأ أن نعتقد للحظة أن «داعشية» أبي بكر البغدادي تقل عن «داعشية» أوباما، فذاك يذبح مباشرة، والثاني يذبح بالسياسة عبر سواه.

الدول القادرة، بل الدول التي خلقت «داعش» وموّلتها وسلّحتها ورسمت لها الخطط وأوعزت إلى دول أخرى تسهيل مهمتها، هي دول تتساوى في الإجرام، وشريكة في الجريمة مع «داعش».

قرار أممي مموّه يدين «داعش» ولا يدين رئيسها! يشير إلى الإرهاب ولا يحدد منابع تمويله وتسليحه! لو كانوا فعلاً يريدون تجفيف منابع الإرهاب فليبدأوا أولاً بواشنطن وباريس ولندن والسعودية وقطر، وخاصة بأنقرة.

العواصم الإقليمية، الرياض والدوحة وأنقرة وعمان، كانت تنفذ منذ اندلاع حريق «الربيع العربي» أجندة صهيو ـ أميركية، خاصة على الساحة الشامية، والآن في العراق.

لو كانت أميركا جادة في تجفيف منابع الإرهاب، لكلفها الأمر إرسال أربعة ضباط استخبارات إلى كل من الدوحة والرياض وأنقرة وعمان، ولبلّغت هذه العواصم، تماماً مثلما بلّغت حمد «المعظم» في قطر بأن اللعبة انتهت وعليكم إقفال حدودكم، ولكان الجميع انصاع ونفذ.

ولكن الأمر لن يكون، طالما أن «داعش» تلتزم بما رسم لها من دور، وهي الآن تتلقى عملية تأديب أولى، فإذا انكفأت إلى الحدود المرسوم لها ونفذت دورها في تمزيق الوحدة الاجتماعية وتشويه الانتماء والتحريض على الإسلام في الغرب تبقى «داعش» ويكون عمرها عمر الدولة الكردية التي أثبت قادتها أنهم يلتزمون بصرامة ما أوكل إليهم فعله.

«داعش» الدولة الإسلامية في الشام والعراق لن تهزم قبل أن تقوم في وجهها الدولة القومية في الشام والعراق.

المعركة طويلة، وانتصارنا فيها ممكن بقدر ما نملك من إمكان للمواجهة على قاعدة الانتماء القومي وكيف يمكن أن نستنكف عن ذلك. «داعش» هي النكبة الرابعة بعد عام 48 وعام 67 وعام 2003 التي تنزل بالأمة، فأمام الموت المحقق تصبح التضحية شأناً عادياً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى