«عين نحّات أعمى» للشاعر المغربي محمد العنّاز… إبدالات المعنى
أحمد الشيخاوي
بدورها الهامات الأقدر على مجابهة التخشّب الآنيّ بسلاح أو بديدن ابتكار المعنى على نحو فلسفيّ ضاغط باتجاهات دلالية طاعنة بضبابية الطقس المتصل بعوالم العدم إن بشكل أو بآخر، تنزع صوب استلهام ألوان الهرطقة لإشباع القصيّ في الذات المثقلة بحمولة الموروث المؤرّق حدّ الاختناق بالمعاناة ومكابدة المختزل في مواقف الرفض الواعي، إذ تمرّر عبر أعين جوانية أو مسامات السبق في شأن اقتراح بدائل جمالية لا تستنسخ الذاكرة.
ببساطة، إنها كتابة الانكسار وفق ما تمليه خريفية المشهد الملتهب ببلاغة القول الشعري المغرق في وحدة الموضوع بغرض مقاربة الخبايا واستنطاق المكنون.
تلكم قوالب التشكيل التي تستفزّ قواميس النهل من التناسلات الأشدّ التحاماً وتبعية لصميم الواقعية التي تدمي الإنسان وتبرز مدى ترامي آفاق التصحّر الآدميّ كتحدّ مباغت وخطير يتلبس بعطشه لحظتنا، فتتحجّر الأحاسيس وتبتلع الآلية فينا كل غضّ وطفوليّ ونبيل.
ثم تعشّق الممارسة الإبداعية الرصينة والانسكاب الروحي في ملكوتها الهامس بقزحية المفردة وعمق الرؤيا وزئبقية الضمني المغرّدة به منظومة الانزياح والومضات والاستعارة الكلّية، الممهدة لمناخ تقاطر متتالية رسائل تهذّب الذائقة، وتناوش الراهن وتجترح ضمّادات مطيتها الحكي في ملامسة الجوهر الإنساني وترصّد ملامح المفقود.
هنا، يتقمّص الاستهلال الوظيفة النصيّة، متجاوزاً مستويات المماثلة إلى غلوّ مقبول يدثرّ التشبيهات الواشية بمنحى السياق الإجمالي للأضمومة مشفوعاً بالتدرّج والتراتبية المراوحة بين العدّ التنازلي تارة، وتصاعديته أخرى، ضمن فعل تعرية الثيمات وإماطة الأقنعة الخطابية عمّا يخوّل رسم دورة كاملة والتفاف حلزوني رابط برمزية العنونة «عين نحّات أعمى».
كذلك هي درامية المشهد المشرع على أسلوبية مخاطبة للبصيرة فينا والشاحذة للطاقة الكامنة من خلال تفجير عناصر الإرباك باحتكاك مخملي عاكس لقوة الصوت الداخلي الذي يمتلكه شاعرنا وهو يعلن تشظّيه بالتماهي، بل بالانصهار في مستنقع أصداء انهيار العالم عبر بوح شجي صادم .
العين الثقب في الجدار
قامتي أطول
لكنّها ستارٌ من ظلامٍ
لا شمس
لا نسمة ريحٍ
مجرّد أسياخٍ
ينبتها إسمنتٌ بليدٌ
نجد هذه الومضة وبقدر ما صمتت عن جرد تبعات المعايشة الوجدانية والرعاية الرمزية لإقحام «لا» مزدوجة تقيّداً بتقنيات الاسترسال في نفس التشويق وإيقاعه حتى آخر صورة شعرية من الديوان… نجدها اقتضبت الاحتفاء بشتى معاني «عين» في خضمّ نسيج كلامي تكتسحه ظلال النظام نور/ظلام، والمبثوث آهاً وغصصاً مع تفاوت في النسب ليشغل جسد النصّ برمّته وليمعن في دوخة ذاتية ينبتها راهن التصلبّ البليد.
ثقبٌ هو يوميّتي التي لا أرقام لها
كلّما رفعت رأسي
تذكّرت أنّني أقيم بين حدّين:
حدّ الظلام
وحدّ شبيهه
ثقبٌ في الجدار
ظلّه في رأسي
ورائحة الشارع تخرج من ذاكرةٍ
تطلّ عليّ
كأنّني أقيم في بئرٍ
لا قرار له
الأصوات تأتي من بعيدٍ مختلطةً
بصقيعٍ بلاطٍ لا لون له
كلّما رآني الثقب بعينه
أدركت أنّني جزءٌ من أجسادٍ مرّت من هنا
نامت على الضيم
وافترشت جلدها
وعدّت إيقاع زمنٍ متشابهٍ
يأبى أن ينتهي…
حين أتعب،
ويتاح للجدار أن يكون صديقاً
أرسم بأظافري
ألف ثقبٍ أطلّ منه على
داخلي،
أتخيّل ألف معجزةٍ
ألف مصادفةٍ
لأن أكون
مثل أيّ نملةٍ
لها إمكان أن تهزم
ثقوب كلّ العالم
وبالتالي نحن إزاء تجربة مقنعة جدّاً، تتنفّس أوجاعاً جمّة وتتقلّب بين حدّين. كأنها سيرة ترسم بالأظافر بحسب تعبير شاعرنا، وتنتشي بثمالة سيزيفية مكرورة محايثة لموسيقى العدم الصارخ بتجليات استرخاص الذات وبخسها حقّها ومشروعية حلمها بالانتصار على العالم وحيازة الأفضل.
بحيث لا انفصال ـ بالمطلق ـ عن النرجسية التي تختصر السرّ في الحاجة الماسّة من لدن جيل الشاعر، إلى تنشيط البصيرة وتأجيج فتيلها كعصب وشرط للخلاص الرامية إليه شعرية «عين نحّات أعمى»، ترعاها الدوال التي تفيد وتزكّي ضرورة تفجير البصيرة الإنسانية في كل نواة من الكامن فينا.
يذكر أنّ ديوان «عين نحّات أعمى»، صادر عن «دار النهضة العربية» ـ بيروت.
كاتب مغربي