ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…
ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…
تُخصّصُ هذه الصفحة صبيحة كل يوم اثنين، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.
وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.
كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.
إعداد: لبيب ناصيف
بعضٌ من نضالٍ كبير
السنوات التي أعقبت اغتيال العقيد عدنان المالكي، غنيّة بوقفات العزّ التي سطّرها رفقاء أبطال في كلّ من لبنان والشام، وهي مرحلة نضالية هامة لم تؤرّخ كاملةً، ولم يعمد رفقاء كثيرون، ممّن سُجنوا أو أوقِفوا، أو نزحوا خارج الكيان الشامي، إلى تسطير مرويّاتهم، فتبقى لتاريخنا، وللأجيال.
في كتابها «حلم النهضة» تعرض الأمينة أدما ناصيف حمادة، لجانب من العمل السرّي في دمشق بعد حادث اغتيال العقيد عدنان المالكي.
«بعد مقتل المالكي لم نتوقف عن النشاط الحزبي، ولكن من دون تنظيم. ذلك أن المسؤولين في الحزب تواروا عن الأنظار بعامل الحذر. وكانت التعليمات تأتي متفرّقة وتنفّذ بسرعة ودقّة، من دون سؤال من أين أتت. علماً أن معظم تلك التعليمات لم يكن أكثر من بعثرة المناشير في الطرقات العامة أو لصق صور الزوابع على الجسور وحيطان الأبنية الفخمة في الشوارع وواجهات مراكز الدولة. عامل الثقة كان الدافع الرئيس لتنفيذ تلك التعليمات.
أما نشاطنا كأعضاء فلم يتوقف عن مساعدة الرفيقات اللواتي سُجن أزواجهن وأصبح وضعهن المالي في غاية الصعوبة. فاجتمعنا نحن الصغار، الذين لم ترد أسماؤهم في لوائح المطلوبين من طلاب وعمال وموظفين وأصحاب مهن حرّة. وبادرنا إلى جمع الاشتراكات مع تبرّعات بعض الرفقاء الميسورين وتقديمها إليهم.
بقينا على هذه الحال بضعة أشهر من عام 1955 إلى أن جاءت التعليمات من المركز بتنظيمنا خلايا سرّية، كلّ خلية مؤلفة من خمسة أعضاء يعرف كل منهم الآخر، ينسّقون العمل من اجتماعات وحلقات إذاعية وجمع الاشتراكات والتبرّعات وتقديم التقارير الشفهية للمسؤول عنهم. وكان المسؤول يتصل بواحد من الحلقة وبِاسم مستعار وكان الرفيق بشير موصلي 1 مسؤولاً مركزياً يعمل بِاسم «عوني».
وكان لهذا الإسم أثر كبير في نقمة المحققين عليّ، لأنهم كانوا مصرّين على معرفتي له وأنا كنت أنكر لعدم معرفتي حقاً أن بشير وعوني هما شخص واحد، إلى أن واجهوني بجميع الموقوفين قبل أن أدخل سجن المزة عام 1956. كان ذلك في المحكمة العسكرية حين أراني القاضي صوراً كانت صورة بشير بينها. فالتقطها القاضي وقال: من هذا؟ فأجبت ببرودة أنه بشير الموصلي. وما إن تلفظت بإسم بشير حتى انهالت عليّ عاصفة من الشتائم. فقلت إني أعرف بشير ولا أعرف أن عوني وبشير شخص واحد.
وكان الرفيق نزار محايري منفذاً عاماً وكنا نعتقد أنه فار لكنه لم يغادر دمشق. وجاء يوماً فجأةً وكلّفني جمع الاشتراكات والتبرعات من أصحاب الشركات والمؤسسات الكبرى في دمشق وإعطاء الأموال إلى الرفيق نخلة ماضي 2 الذي يعمل مدير محاسبة في محلات «باتا». فأخبرت رفيقي وشريك حياتي في ما بعد نعمة حمادة عن طلب الرفيق نزار. لم يكن نعمة يعمل معنا في الخلايا ولكنه كان يحمل البريد بين المركز في بيروت ودمشق. لم يكترث نعمة للشركات قائلاً: إن رجال الأعمال لن يتذكروك فقد لا تلتقي بهم أكثر من مرّة، أو مرتين، المهم هو الرفيق نخلة واستعداده النفسي للعمل من دون أن يسجل الأسماء. وألا تكون عادة «التسجيل» قد تغلبت على طبيعته فنحن الآن، أحوج إلى الثقة والسرعة، كما أن تسجيل الأسماء يعرّضنا للسجن، فاذهبي إليه والفتي نظره إلى هذا الأمر. أما الاشتراكات والتبرعات فسأنقلها أنا مع البريد. لكن الرفيق نخلة رفض اقتراح نعمة.
كنّا نسكن في زقاق أو زاروب نسبةً للشوارع، وكان سكان «زقاق الصخر» يعرف بعضهم بعضاً بشكل جيد، وكانت حاجاتهم اليومية جميعها موجودة في ذلك الزاروب من سمّان وخبّاز ونجّار ولّحام ومصبغة. وجئت أنا وأكملتُ المجموعة بالخياطة، وكان أي شخص غريب يدخل إلى ذلك الزاروب يعرف الجميع إلى أي بيت دخل. بعض السكان كان لديهم غرف زائدة عن حاجاتهم يؤجرونها مفروشة للطلاب في أثناء فصل الدراسة.
في ذاك المنزل المتواضع واصلنا نشاطنا من عقد اجتماعات وحلقات إذاعية، وشرح التعاليم للمنتسبين الجدد. ولتغطية ذلك النشاط كنا نختلق المناسبات من أعياد زواج أو ميلاد أو عودة غائب. في إحدى المرات كان الاجتماع في بيتنا وكانت المناسبة عيد ميلاد أختي، فطُرق الباب الخارجي بشدة. ذهب أخي لفتحه، للحظات سمعنا أصواتاً ومشادات على الباب، وإذ بثلاثة شبان يحملون في أيديهم عريضة يصرّون عليه لتوقيعها وهو يحاول دفعهم إلى الخارج. استنفر الرفقاء في الداخل وأشبعوهم ضرباً ومزّقوا تلك العريضة التي «كانت للدفاع عن دمشق من عبث الغرباء». وكان هؤلاء الشباب طلاباً في الجامعة ومن أبناء دمشق الذين ضاق صدرهم من الإضراب الذي سببه القوميون فألّفوا تلك العريضة بصيغة سؤال: من منكم يقبل أن تكون دمشق مأوىّ للّصوص القوميين؟ من منكم يتحمل عبث الغرباء بإستقرار دمشق أكثر مما تحملت ومنذ سنة؟ فنحن ندعو المواطنين إلى طردهم وملاحقتهم للقضاء عليهم.
كان هذا العمل الفصل الأول للمسرحية، والفصل الثاني كان في اليوم التالي وفي مقهى الجامعة. استفردت مجموعة من الشبان بالرفيقين نعمة حماده وحسن مخلوف، وانهالت عليهما ضرباً ورفساً وكسرت الأباريق والكؤوس على رأسيهما فهبّ لنصرتهما بعض الطلاب من أبناء مدينة حلب وآخرون من مدينة حماه وأنقذوهما في الرمق الأخير.
لقد أنجدتهما شهامة القبائل التي لم تزل ساكنة في قلب أبناء المدن! واللافت أن الشرطة لم تسعفهما بل تركتهما ينزفان، ثم حملتهما إلى أمام البيت الذي يستأجرانه قرب بيتنا، ورمتهما على الرصيف. في فترة قصيرة مضت بين معرفتنا بما حدث وذهابنا لإسعافهما، كانت بقعة كبيرة من الدماء قد غطّت الرصيف. ولحسن الحظ كان أخي يستعد لمغادرة البيت فأسرع إلى عيادة الرفيق الدكتور عبد الكريم الشيخ 3 وأتى به لإسعافهما.
بقي الدكتور ما يقارب نصف ساعة يستخرج الشظايا المتبقية في رأسيهما من بقايا الأباريق والكؤوس. كان رأس الرفيق نعمة اكثر حظاً من الجروح والشظايا من رأس الرفيق حسن مخلوف، طويل القامة. والظاهر أن الذين كانوا يضربونهما قصيرو القامة فلم يتمكنوا من الوصول إلى رأس الرفيق حسن. وقد تكون هذه من فوائد الطول فالجروح كانت أكثرها في وجهه وعنقه أما الرفيق نعمة فكان رأسه مهمشاً. وبعدما أكمل الطبيب إسعافهما، طمأننا أن جراحهما ليست خطيرة لأنها جراح شظايا سطحية وليست جراح سكاكين.
وفي كتابه «جنوح الأشرعة»، يروي الرفيق جهاد جديد في الصفحة 243 وما يليها، كيف كانوا ينقلون البريد الحزبي عبر الحدود بين البلدين، ثم كيف يوزعون المناشير والبيانات الحزبية على الرفقاء والمواطنين في أجواء من الحذر الشديد. يقول: خلال العطلة الأسبوعية التي كنت أقضيها في «كلماخو» 4 وفي ليلة مطيرة، تنبّهتُ، قبل أن أستسلم للنّوم إلى طرقات متوالية على باب غرفتي الجانبيّة، ولأّنها كانت خفيفة، عرفت أنّها مبرّأة من نذير الشؤم «المخابراتي» فأسرعت إلى فتح الباب. في الظلمة الحالكة سمعت شبحاً يهتف: تحيا سوريا، حيّيته ودعوته:
قال: أنا مالك.
عرفتك.
هل الجوّ مطمئن؟
نعم، أسرع… أجبته بثقة.
سأنادي رفيقي، وقفل عائداً.
«أطفأتُ الضوء وانتظرت، وبعد برهة دخل الإثنان يحملان كيساً، وعلى ضوء الشمعة شرح مالك، بإيجازٍ ودقّة، ما يتوجّب علينا أن نقوم به: عليكم أن توزّعوا هذه المنشورات على أكبر مساحة ممكنة في وقت واحد، عقب الساعة الثانية عشرة من ليلة الأحد، بعد غدٍ. ختم قوله بنبرة حماسيّة ونهض الإثنان غير آبهين بإلحاحي الراغب بإستضافتهما، وأدلجا تحت الظلمة ووابل المطر.
أقفلت باب الغرفة بإحكام وخرجت مسرعاً لإستشارة الرفقاء. استقبل كلٌّ من عادل وإبراهيم هذا النبأ بسعادة، واتفقنا أن أسبقهما إلى غرفتي ليأتيا بعد قليل غير مترافقين.
بصمت وحذر بدأنا نطّلع على محتويات الكيس الكبير. قرأنا بواكير الردود على الاتهامات الموجهة إلى حزبنا وقادتنا، وقرأنا نشراتٍ تتضمّن تعليمات دقيقة ينبغي أن نعتمدها في العمل السرّي. أسعدتنا مقالات سعيد تقيّ الدين الساخرة والصارمة والداعمة، فوجدنا فيها جرعات دواء تعيد إلى الجسم الحزبي مناعته وصلابته.
من غير تردّد، وزّعنا هذا الزاد على ثلاث مجموعات وخصّصنا لكلماخو والقرى المجاورة الحصّة الكبرى. ورأينا، بعد نقاش، ان نخفي هذه الحصّة في مكان آمن، وأن ننطلق، في الليلة نفسها، إلى قرية «ديفة» كي نسلّم الرفيق جميل محمد حصّة المنطقة التي يشرف عليها.
احتطنا للظلمة والمطر وخطّطنا لتفادي أولاد الحرام. كان أحدنا يتقدّم من غير حمولة ليكشف الدرب ويتبعه الإثنان الآخران بعيدين عنه بعداً يكفل لهما سماع صوته ومعرفة ما يفاجئه.
وصلنا إلى «ديفةقبل انبلاج الضوء، اخترنا مكاناً منزوياً، لجأنا إليه ورفعنا حمولتنا فأخفيناها بين الأغصان الكثيفة المتشابكة، ثم بدأنا نتناوب على حراستها، ونتناوب على ورود عين الماء التي كانت تروي اللاذقية.
كلّفت بالصعود إلى منزل جميل، الذي أعرف تفاصيل حركته اليومية، بلغته متعباً جداً فاستندت قليلاً إلى الجدار الخلفي، ثم نظرت من النافذة الشرقيّة فرأيت جميلاً يملأ السرير، ولم أرَ، كالعادة، أحداً في غرفته. نقرتُ على الزجاج بأصابعي الواهنة نقرات خفيفة فاستيقظ، وقبل أن ينهض عرف الطارق، وأسرع ليفتح النافذة، فعاجلته بقولٍ حاسم ومُقتضب: نلتقي قرب العين، نحن بانتظارك، أسرع.
قلقنا لتأخّره غير المتوقّع فذهب إبراهيم لملاقاته، وقبل أن يبلغ العين، رأيناه راجعاً وخلفه جميل الذي جاءنا يحمل قدراً كبيراً من الحبّ والشوق والدفء، ويحمل ما تيسّر من الطعام الذي أعدّه لفطور اثنين ففاض عن الجميع. بعد الإفطار الشهيّ، سلمناه الأمانة وبلّغناه ما تبلّغنا وحسمنا أمر عودتنا السريعة كي نتفرّغ إلى المهام المتبقية.
في الموعد المحدد كان الرفقاء في مختلف القرى يوزّعون الدفعة الأولى من المطبوعات التي أرسلها المركز الجديد في لبنان وصباح اليوم التالي، تناقل الناس، باهتمام ودهشة، أخبار هذه الحملة الإعلامية، وبدأنا، نحن الفاعلين، نتوقّع المداهمات الأمنيّة ونستعدّ للمداورة المشروعة والتخفّي الذكيّ. تحقّق ما توقّعناه حين وصلت قريتنا قبيل المغيب سيّارتا «جيب»، رابطت إحداهما على مدخل القرية الغربيّ، وتابعت الثانية إلى الشرق. نقل إلينا رفقاؤنا الأشبال أنّ نفراً من المداهمين ترجّلوا من السيارتين قبل وصولهم القرية، وأنّ هؤلاء توغّلوا في كروم التين والزيتون، وكأنهم يعلمون بدّقة بعض مخابئنا، وطمأننا الأشبال أيضاً أن رفقاءنا غادروا تلك المواقع مذ رأوا أضواء السّيارتين القادمتين.
كنت واثقاً أن هذه المجموعة الأمنية سوف تذهب إلى منزلنا وسف تربك والديّ وأفراد الأسرة والصغار، وكنت مطمئنّاً جداً إلى إجابات والدي: ليس عندي أحد، ابني الأكبر في السجن، والثاني معلّم في بصرى الشام، والصغير تلميذ في اللاذقية. لم يقتنع جهابذة المكتب الثاني بهذه الإجابات، لأن زبانيتهم المخبرين أكدوا لهم كتابةً وشفاهاً أنّ منزلنا ليس إلاّ مكتباً للنشاط القومي الهدّام. هو مركز نقل التعليمات، وهو المفتوح لاستقبال القوميين الفارّين من كلّ المحافظات.
تكرّرت زيارات المخبرين وزيارات رجال الأمن غير المنتظمة ولم يظفروا بشهادةٍ تدعمهم أو دليل يدين واحداً منا، لأنّ الناس في القرية أجمعوا على أنّنا شباب متعلمون ومهذّبون وأبرياء، وأجمعوا أيضاً على اتخاذ موقف سلبي من هؤلاء المخبرين، ولمسنا مقدار الاضطراب الذي تعاني منه أسَر هؤلاء فقرّرنا التحرّش بهم على نحوٍ يزيدهم اضطراباً ومذلّة.
حمل بعض رفقائنا المنشورات الحزبية الجديدة، ورصدوا المداهمات اللّيلية المتكرّرة، كمن بعضٌ غربيّ القرية، في مزارٍ على مقربة من الطريق المؤدية إليها، وكمن آخرون عند المنعطف الشرقيّ، وظلّوا يراقبون الوافدين وفق خطة دقيقة.
حين لمع ضوء السيارة عند قرية «رسيون» تأهّب الرفقاء واثقين بأن القادمين سوف يناورون. دعا إبراهيم مجموعته للانتشار على التلّ الذي يتيح لهم الهرب إلى الوادي الشمالي الذي لا تصل إليه سيّارة ولا يقصده غريب. وحصل ما خططوا له. أطفأت السّيارة أنوارها وتحرّكت على مهل ثم توقفت مقابل المزار فترجّل الزائرون وصاروا يتحدثون بأصوات مسموعة، وبعد أخذٍ وردّ، قرروا مداهمة الوادي الجنوبي. تريّثت مجموعتنا قليلاً، وحين شعر أفرادها أنّ الحركة قد توقفت وانقطعت حول السيارة، اقترب منها محمد، لم يجد أحداً فاقترب أكثر فاطمأن، وراح يلصق المنشورات على زجاجها الأماميّ والخلفيّ، ثم عاد واثقاً يدعو الجميع إلى المغادرة بحسب الاتفاق.
كنّا في المنزل نراقب السيارة حين ظهرت قرب «رسيون»، وحين انطلقت من قرب الكمين، وأدركنا انهم سوف يأتون إلى منزلنا مسرعين، فتحلّقنا جميعاً حول مائدة العشاء. سمعنا وقع أقدامهم وجلجلة أصواتهم وسمعنا كبيرهم يقول لوالدي الذي خرج لاستقبالهم: لن ينفعكم الإنكار، ابنك هو الذي اعتدى على السيارة. دعاهم والدي إلى دخول البيت ودعاهم لتناول الطعام وحين لمحني الضابط سأل: من هذا الولد؟ فأجابه والدي باطمئنان: هذا هو الذي تسألني عنه. طلب هويتي فأحضرتها له. تأكد وغضب ثم انصرف ومن معه.
اتجهت السيارة نفسها إلى خارج القرية من الجهة الشرقية، وتركها رجالها بحثاً عن المتّهمين وخلال طرفة عين، كان عادل، وهو ناشط بارز وعداء مميّز، يعلّق تحت ماسحتي الزجاج الأمامي منشورين ثم يختفي.
فوجئ الضابط ومن معه بهذين المنشورين، جنّ جنونهم، فأرغوا وأزبدوا وعادوا إلى منزلنا مسرعين فرأوني وكتابي في يدي. قصدوا بيت المختار يستفسرون فأفادهم أن أولاد القرية عاقلون، وأن الذين قاموا بهذه الأعمال من خارج المنطقة. وفي اليوم التالي كثرت الأقاويل: هم من جبلة، لا، من رويسة البساتنة، قيل: من القرداحة، وقال آخرون: إنهم من لبنان.
بقينا سنتين على هذا المنوال، تصلنا الأمانات المقرّرة، نحتفظ بقليل منها في المخابئ السرية ونوزع ما تبقى ليلة وصولها، أدى هذا النشاط الفاعل والضاغط إلى إرباك الأجهزة القمعية فاضطرت إلى تلفيق اتهامات لا تستند إلى أدلة، ودفعت بعضنا إلى المحاكمة، بتهم الإنتماء إلى تنظيم سرّي، وتوزيع منشورات تهدّد سلامة الوطن، وتسعى إلى الإخلال بالأمن.
شعرت بالحرج حين أحالوا معنا الأستاذ جودت سميا إلى المحكمة باللاذقية لأننا، نحن الشباب، حاولنا جاهدين أن نكتم السرّ عن رفقائنا المعلمين المنظمين في مديريتنا: أحمد داود، علي قاسم، توفيق نوفل، حافظ إسماعيل، جودت سميا. وكان هؤلاء جميعهم مستعدين ومتحمسين للقيام بأيّ مهمة يكلفون بتنفيذها، لكننا لم نُطلعهم في تلك الفترة الحرجة على أي نشاط، غير أن السلطة، على رغم الحيطة والحذر، أرادت أن تنتقم من المعلمين القوميين فاتخذت قرارات بتسريح بعضهم، ونقل الكثيرين منهم إلى محافظات نائية، وسوق آخرين إلى المحاكم. ومن هؤلاء كان رفيقنا الأستاذ جودت الذي استعان بمحام يدفع عنه التهم الكاذبة.
هوامش:
1 بشير موصلي: مُنح رتبة الأمانة، وتولّى مسؤوليات مركزية ومحلية.
2 نخلة ماضي: من «جديدة المتن»، شقيق الرفيق سليم ماضي والرفيقة عايدة ماضي عقيلة الرفيق سليم عازوري، ووالدة الرفيقة ماغي مطر والرفيقين أنطون وفداء.
3 عبد الكريم الشيخ: طبيب، مُنح رتبة الأمانة، غادر إلى كولومبيا وفيها تولّى مسؤوليات حزبية. للاطّلاع على النبذة المعمّمة عنه الدخول إلى قسم «من تاريخنا» على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية: www.ssnp.info
4 كلماخو: أشرنا إليها في نبذات سابقة، مراجعة قسم أرشيف تاريخ الحزب على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية: www.ssnp.info