بريطانيا والخروج من الاتحاد الأوروبي

د. رائد المصري

كثرت الأحاديث والتحليلات السياسية والاقتصادية حول خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وقد حُبّرت الأقلام بغزارة خاصة في العالم العربي من دون الوصول أو من دون تلمّس أيّ واقعية تحليلية قريبة من منطق أداء النظام الرأسمالي وخاصة الصورة المتوحّشة التي كشف عنها في السنوات العشرين الأخيرة.

لا بدّ. لنا أولاً من استعراض هذا الأداء المعولم الذي استباح الدول والحدود والرساميل وكوّن لنفسه تراكماً هائلاً من الثروات وسّعت الهوّة بين الطبقات الشعبية وأفقدت الحركات الإجتماعية أيّ دور بمعنى إلغاء ما نسمّيه الطبقة الوسطى، وهي غالباً طبقة تشكّل صمّام أمان لاستقرار الشعوب والدول.

هذا النهج المتواصل المتفلّت من أيّ قيود أو حدود تسبّب بافتعال أزمات مالية واقتصادية منذ مطلع القرن الواحد والعشرين من دون أن ننسى أزمة عام 2008 التي تشكّل أزمة بنيوية في عصب النظام الرأسمالي بحيث طرحت علامات استفهام كبيرة عليه وعلى أدائه وكلّ منظومته نتيجة الكوارث التي تسبّب بها البعض من المقامرين والمغامرين المتفلّتين على هواهم في مضاربات مالية وسمسرات هزّت أكبر الدول في استقرارها المالي والاقتصادي ونعني بها هنا أهمّها دولاً أوروبية كإيطاليا وإسبانيا وفرنسا وغيرها، والتي ما زالت هي وغيرها تدور في حلقات مفرغة وإفلاسات مالية لا تستطيع الخروج من هذا البناء النيوليبرالي المتوحّش، نتيجة تعنّت القادة والساسة والمفكرين الاقتصاديين حول عدم جدوى التقديمات الاجتماعية أو حول إدخال جرعات إصلاحية يكون للدولة حضور فاعل فيها.

واقعٌ اقتصاديٌّ خطير أفرز الطبقات الاجتماعية في أوروبا وباعد بينها، وأزمات مالية متتالية أثْقلت كاهل المواطن، وضرائب مخيفة يدفعها تذهب بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى جيوب سماسرة المال الذي شكّلوا أوليغارشيات اقتصادية وسياسية تتحكّم بكلّ منظومة أوروبا وسياساتها والتي كانت غالباً هي ملحقة بالنهج وبالسياسات الأميركية في العالم.

كلّ هذه التطورات ونمو الاقتصادات الحية واستمرارها في أوروبا أتى على حساب دول قوية وفاعلة مثل ألمانيا وبالتالي لا يجوز ومن غير المنطقي أن يتحمّل الاقتصاد الإلماني عبء كلّ اقتصاد أوروبا، ويكون العماد الوحيد والرافعة لست وعشرين دولة، وهو ما تنبّهت له بريطانيا والذي كان الشعب البريطاني يراقبه بهدوء وروية، حيث كان في الأساس الدخول البريطاني الى الاتحاد الأوروبي مشروطاً وملتبساً فأتى التصويت بالخروج. ما يعلن عنه قادة وساسة كثر ويهوّلون عليه وعلى هذا الخروج وفقدان المزايا من الاتحاد الأوروبي نسأل: ما هي مزايا بريطانيا في الاتحاد إذا كانت تدفع أسبوعياً خسائر ودعم لمنظومة الاتحاد تقدّر بــ 350 مليون دولار… ثم الحديث عن بروز التوجه اليميني، وهنا نقول إنها حالة شاملة كلّ دول العالم وليس أوروبا أو بريطانيا فقط، وبالتالي أساساً هذا الظهور القوي لليمين وإعادة استنهاضه يشكّل المسمار الأول والأساسي في نعش الرأسمالية المعولم المتوحش من دون الإشادة طبعاً بالفكر اليميني وتطرّفه.

بروز ظاهرة اليمين ولو بتطرّفه يعني الرفض لمنطق الإستباحة بكلّ أشكالها وخاصة الاقتصادية منها، والتي أعلنها إجماع واشنطن وتعني ضرورة الحفاظ على الدولة واقتصادياتها دون الخرق وإلغاء الحدود ودخول المهاجرين ودون أن تجوب الاستثمارات بلا رقيب وبلا ضرائب. هي استباحة لكلّ شيء، حيث بات المواطنون في دولتهم كالهنود الحمر يتطلّعون فقط بعيونهم من دون أن يكون لهم أيّ ملكية أو مشاركة لا في القرار السياسي ولا في السياسات الاقتصادية.

أخيراً نقول هذا الخلل في المنظومة الرأسمالية المتوحشة ستبقى تردّداته تنتقل من دولة إلى أخرى ومن منطقة إلى أخرى، إذا لم يلجأ العالم اليوم إلى نوع من الاقتصاد الموجّه ولو بحدوده الدنيا، ويُعتقد أنّ دولاً غير بريطانيا ستعتمد نفس الطريقة للخروج من الاتحاد الأوروبي، لأنّ علاقات الإنتاج وأدوات هذا النظام الرأسمالي تغيّرت بعد عشرين عاماً، وبالتالي بات لزاماً تغييراً بنيوياً فيه، حيث شكّلت اليونان ووصول اليسار إلى السلطة أول جرس إنذار تمّ كبته ولجمه ووأده.

هو التبديل والتغيير في علاقات الإنتاج ومنظومتها ستنقل حتماً قلب العالم المالي والاقتصادي من أوروبا إلى جنوب شرق آسيا…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى