بريطانيا: ثورة الطبقة الوسطى
حميدي العبدالله
النتائج التي أسفر عنها الاستفتاء على بقاء أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتصويت غالبية الناخبين لصالح الخروج من الاتحاد، حدث ليس عادياً، لم يكن وليد الصدفة، أو نتيجة لطغيان النزعة القومية.
هذا الحدث الذي يرقى إلى مستوى الثورة، يمكن وصفه بأنه ثورة الطبقة الوسطى ضدّ كبار الأغنياء في بريطانيا وضدّ الهجرة. وهذا ما أفصحت عنه الكلمة التي ألقاها رئيس حزب الاستقلال فور إعلان النتائج الرسمية، حيث وصف هذا اليوم بأنه يوم استقلال بريطانيا ويوم الانتصار على كبار الأغنياء وكبرى الشركات، وانتصار للشركات الصغيرة والإنتاج الصغير.
من المعروف أنّ العولمة ارتبطت بها ظاهرتان معروفتان، الأولى، تعاظم سطوة الشركات متعدّدة الجنسيات، وإخضاعها للاقتصاد الصغير، والتهرّب من الضرائب، فضلاً عن تأثيرها المعروف على صانعي القرار. وباتت هذه الشركات تسيطر على غالبية عائد رأسمال معيدة إنتاج ظاهرة الفروق الحادّة في توزيع الثروة والدخل القومي، وهي ظاهرة رصدها بتفصيل كبير «توماس بكييز» في كتابه «رأس المال، في القرن الواحد والعشرين».
بديهي أنّ الميل نحو التمركز، واحتكار الثروة وما يلحقه ذلك من أضرار بالطبقة الوسطى، وتحديداً أصحاب الشركات الصغيرة، كان لا بدّ أن يقود إلى ولادة مقاومة ضدّ هذه الهيمنة آجلاً أم عاجلاً، ولكن الطبقة الوسطى لم تكن قادرة بمفردها على خلق حركة شعبية تستطيع تحدّي الرأسمال الكبير المدعوم من النخب الحاكمة في الغرب.
الظاهرة الثانية المعروفة، هي الانفتاح على الأيدي العاملة الرخيصة التي تتمركز في بلدان الجنوب، حيث قامت الحكومات الغربية في الدول الصناعية المتقدمة تحت تأثير ضغط الشركات الكبرى بتسهيل تدفق ملايين المهاجرين من قارات آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وهؤلاء المهاجرون ترغمهم ظروفهم المعيشية على العمل بأجر أدنى بكثير من عمال الدول الصناعية الأصلية.
عندما كانت الاقتصادات الغربية تنمو بمعدلات عالية، كانت قادرة على استيعاب أفواج المهاجرين من دون أن يكون ذلك على حساب العمال الأصليين، ولكن عندما هزّ الركود بدءاً من عام 2000 الاقتصاد الغربي، وتحوّل إلى أزمة في عام 2008، وانكماش معدلات النمو، باتت قدرة الاقتصادات الغربية على استيعاب المهاجرين والحفاظ على وظائف العمال الأصليين في غاية الصعوبة، ولأنّ العمال المهاجرين لديهم استعداد للعمل بأجر أقلّ، فإنّ هذا بات يقلق العمال الأصليين، الذين أصبحوا أكثر استعداداً لقبول أطروحات اليمين القومي المتعصّب في الدول الغربية، ولهذا بدأت الأحزاب اليمينية بالصعود من جديد. ويمكن القول إنّ الطبقة الوسطى المتضرّرة من العولمة وهيمنة كبار الأغنياء، تحالفت الآن مع العمال المعارضين للهجرة وأنتجت هذه الأغلبية التي صوّتت لصالح الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وهي الظاهرة المسؤولة عن صعود دونالد ترامب المرشح الجمهوري الوحيد في الولايات المتحدة.