الشباب المقدسيون بين الانتماء وظاهرة «التسكّع»
راسم عبيدات ـ القدس المحتلة
ثمة مظاهر ومشاهد متناقضة في المدينة المقدسة، فأنت تتلمس ذلك في أرض الواقع، وفي محاولة لفهم تلك الظواهر والمشاهد، علينا أن نستند إلى التحليل الملموس للواقع الملموس، ففي أكثر من مناسبة وأكثر من معركة جماهيرية وكفاحية حول قضايا وطنية ومجتمعية مع الاحتلال، كقضايا الأسرى والاستيطان والأقصى وهدم المنازل، رأينا بأن الشباب المقدسي يتصدر المشهد في المدينة، بل لديه من المبادرات والإبداعات، التي جعلت منه المحرك الرئيس للشارع المقدسي والسابق للقوى والأحزاب السياسية في قيادة الشارع، وليس أدل على ذلك ففي مناسبات كثيرة مثل ذكرى النكبة ويوم الأرض وغيرها، كان الشباب المقدسي يتصدر الصفوف ويقود الشارع، وكذلك رأينا المبادرة الشبابية النوعية والمتمثلة بحشد أكبر عدد من شباب وأبناء شعبنا في أطول سلسلة قراءة حول سور القدس.
ونحن في إطار تشخيصنا لهذه المبادرات والإبداعات الشبابية مجتمعياً ووطنياً يجب أن لا يغيب عن بالنا بأن تلك الظواهر تعبير عن أن شبابنا لديهم القدرة على العطاء والتضحية، ولكن تلك الطاقات والمبادرات لا تجد حاضنة جدية وحقيقية تعمل على تأطيرهم وتنظيمهم وبما يستجيب لهمومهم ومشاكلهم ومبادراتهم وطموحاتهم، وحتى في إطار ما يقومون به من أنشطة ومبادرات وإبداعات، تجد أن هناك من يثبط عزائم الشباب وهمتهم، ويعمل على إجهاض تلك المبادرات أو الأنشطة، حتى لا ينكشف عجزه وقصوره، وعدم تحمله للمهام والمسؤوليات الملقاة على عاتقه، وهناك من تراه من القوى والأحزاب من يركب الموجة لكي يصعد ويظهر على تلك النضالات والتضحيات أو يعمل على تجييرها لخدمة هذا الطرف أو ذاك.
وفي الوقت الذي نثمن ونقدر لشبابنا وصبايانا هذه الأدوار في خدمة قضايا مجتمعهم وشعبهم، إلا أن هذا يجب أن لا يعمينا عن رؤية الصورة من الزاوية الأخرى، أو رؤية النصف الممتلئ من الكأس فقط، فواضح بأن الاحتلال في إطار الحرب الشاملة التي يشنها على شعبنا في مدينة القدس، أول ما يستهدف في حربه الفئة الحية من المجتمع ألا وهي الشباب، فهو يرى أن تلك الفئة والشريحة هي التي تشكل عصب الحركة الوطنية ورأس حربتها في مجابهة والتصدي لخطواته وممارساته وإجراءاته القمعية في مدينة القدس بحق أهلنا فيها، ولذلك نجده يضع على رأس جدول أعماله، فصل هؤلاء الشباب عن جسم الحركة الوطنية وإخراجهم من دائرة الفعل الوطني، ولذلك يرسم خططه وبرامجه على هذا الأساس، فعلى سبيل المثال يرى بأن الطريقة الأنجح والأسلم لهتك وتدمير النسيج المجتمعي المقدسي، تتأتى من خلال القدرة على احتلال وعي هؤلاء الشباب والسيطرة على ذاكرتهم المجتمعية، وإضعاف انتمائهم وثقتهم وقناعاتهم بمشروعهم الوطني وعدالة قضيتهم، وهذا المشروع يجري العمل عليه بشكل جدي من خلال أسرلة المناهج التعليمية في المدينة المقدسة، وبما يشوه وعي وانتماء حوالى أكثر من 80 ألف طالب مقدسي، وبالمقابل يجري الزج بالطلبة المتسربين من المدارس والتي تصل نسبتهم في المظلة التعليمية التابعة لبلدية الاحتلال ودائرة معارفها في المرحلة الثانوية إلى 50 في المئة في الأعمال السوداء في سوق العمل الإسرائيلية أو دفعهم لدائرة استغلالهم أو تجنيد قسم منهم في إطار خلق وإثارة الفتن والمشاكل الاجتماعية «الطوش» وغيرها من الآفات والأمراض الاجتماعية كتعاطي المخدرات أو الانغماس في الرذيلة وأعمال البلطجة والزعرنة والتسكع.
والاحتلال هو يمارس هذا الدور من أجل عملية التخريب والتدمير الممنهج للمجتمع المقدسي وفي مقدمه الشباب، كهدف من الأهداف التي يسعى إليها، والتي لم تعد تقتصر على طريقة أو أسلوب وحيد بعينه، بل نجد أن هناك مجموعة برامج ومشاريع يخطط لها لكي توصله للهدف، حيث نرى أن هناك ما يسمى بمشروع الخدمة «الوطنية» والذي يهدف من خلاله إلى تجنيد الشباب المقدسي وجوهرهم الطلبة للعمل في مرافق وأجهزة وأعمال مدنية مرتبطة مباشرة بأجهزته الأمنية والشرطية، أو التي لها علاقة بتفريغ الشباب المقدسي من أي محتوى وطني.
ولكن ليس الاحتلال وحده هو المسؤول عما آلت وتؤول إليه أوضاع الشباب المقدسي، بل واضح بأن هناك أزمة مركبة ومتداخلة ومتشعبة يعيشها شبابنا في المدينة المقدسة، نتاج لأزمة اجتماعية عميقة يعيشها المجتمع الفلسطيني عامة والمقدسي خاصة، وما نتج منها من تدمير للكثير من القيم الإيجابية من تعاضد وتكاتف وتعاون وكذلك الانهيار والانحلال الأخلاقي والتفكك الأسري والمجتمعي، يضاف إليها ما يعانيه الشباب المقدسي من أزمات اقتصادية، حيث 78 في المئة من أبناء القدس تحت خط الفقر، وانسداد الأفق أمام الاستقرار والقدرة على العيش في المدينة، وتولد الشعور بالإحباط واليأس بين هؤلاء الشباب، حيث هويتهم الوطنية أصابها الكثير من التشويه، وفرص العمل أمامهم محدودة، فهم يشعرون بشكل جدي بغياب وفقدان العنوان والمرجعية والحاضنة لهم، يضاف لكل ذلك غياب الوعي والتوعية والمؤسسات التي ترعى وتهتم بشؤونهم، وتشكل الحاضنة والراعية لإبداعاتهم ومبادراتهم، والمعبرة عن همومهم ومشاكلهم.
في ظل كل ذلك ترى بأن هذا الشباب التائه والفاقد للأمل والمفرغ من الوعي والمحتوى والمتولد لديه شعور بالدونية تجاه عدوه، يخرج ويهيم على وجهه ويتسكع في الشوارع ويقوم بأفعال وممارسات، لا تنعكس أو تنسجم مع قيمنا وأخلاقنا، حيث نجد بأن شوارع القدس وبالذات شارع صلاح الدين أو أمام المدارس الثانوية والإعدادية، تتحول إلى ساحات تسكع لشباب وطلاب أو حتى طالبات، يريدون فيها أن يعبروا عن ذاتهم، ولفت الانتباه إليهم، على أنهم «دونجوان» عصرهم، أو أنهم الأقدر على الوصول إلى قلوب الصبايا، أو من ترى في نفسها بأنها محور ومركز اهتمام الشباب، ويجري التعبير عن ذلك عبر التسكع بمجموعات من الشباب الذي طبعاً يحمل الأجهزة الحديثة والتي تنطلق منها أغان أو موسيقى غربية وعبرية، أو من خلال «التمختر» بسياراتهم أمام الصبايا والسير بسرعة جنونية مع «تشحيط وتفحيط» والاستماع إلى أغان عبرية وغربية أو عربية هابطة، وهذا تعبير عن عمق الأزمة وعدم الثقة بالنفس، واعتبار أن الموسيقى العبرية أو الغربية، نوع وشكل من التطور والتقدم، وليس الاغتراب عن الواقع، وكذلك ترى قطعان من أولئك الشباب يسيرون وتصدر عنهم ضحكات هستيرية، ومنهم من تجده بقصات شعر وملابس تمسخ الشخص كانسان، وترى العديد من هذه المجموعات المتسكعة والتائهة تلاحق الفتيات في الشوارع وتطلق العنان لبذاءتها وكلماتها الجارحة المتجاوزة للغزل، والتي تصل بالبعض لحد التحرش العلني والجسدي بالفتيات.
إننا أمام ظاهرة جداً مسيئة، قد تشكل مخاطر جدية على المجتمع، وهي نتاج أزمات عميقة اجتماعية وجنسية، وغياب الوعي والتربية على أكثر من مستوى بيت ومؤسسة تعليمية أو ثقافية أو دينية، وكل ذلك أنتج سلوكاً وقيماً وثقافة مشوهة، تفعل فعلها في تدمير المجتمع، ولذلك نرى أن المسؤولية في هذا الجانب بحاجة لعلاج وتوعية وتثقيف ومساءلة ومحاسبة على أكثر من صعيد، بيت ومدرسة وجامعة ومؤسسة شبابية أو حزبية أو دينية، والتصدي لهذا بحاجة إلى فهم عميق لطبيعة الأزمة والمشكلة وإيجاد الطرق والآليات التي تمكن من وضع علاجات لها.