الثنائيّ فلوتو ووارنر يصطادان اللقطات اللونيّة في صحراء نيفادا

كتب عدنان حسين أحمد من واشنطن: هل يمكن تجميد الزمن المتحرك والإمساك بلحظاته الهاربة؟ هذا ما تفعله الفنون التعبيرية وغير التعبيرية عادة، وإن كانت الغَلَبة لهذه الأخيرة التي تستعين باللوحة والمنحوتة والصورة الفوتوغرافية والفيلم السينمائي وما إلى ذلك من أساليب وتقنيات تُخلِّد اللحظة الفنية الزائلة، وتحتفي بها مدى الدهر، إن كانت تتوافر على شروطها الإبداعية التي تُؤثر في المتلقي، وتساهم في تغيير ذائقته الفنية.

قام المصور الفوتوغرافي الأميركي المبدع جيريمي فلوتو وزوجته الفنانة كاساندرا وارنر التي لا تقل عنه إبداعاً في مجال الفن الفوتوغرافي غير التقليدي، الذي يدور في فلك الغرابة السوريالية واللامألوف الفانتازي.

قام كلاهما بتصوير عدد من اللوحات الفنية الناجمة عن رشق ألوان سائلة في الفضاء، فهما لا يصوران مواضيع تشخيصية، إنما يحاولان الإمساك باللحظات التجريدية التي تنطوي عليها مصادفة الحادثة الفنية التي يصنعانها في لحظة سحرية منبثقة عن مخيلة عجائبية يشترك في تكوينها الفضاء الخارجي والطبيعة الكونية التي تحيط بنا، وإن نأتْ قليلاً عن المناطق الآهلة بالسُكّان.

اختار الفنانان صحراء نيفادا الأميركية هذه المرة مستثمرين مناخها الصافي، ومُوظّفِين طبيعتها الساحرة التي تأسر الألباب.

يعتمد الثنائي فلوتو ووارنر على تقنية رشق الألوان السائلة أو دفعها بقوة إلى الأعلى وتصويرها بسرعة فائقة، يصل فيها مصراع إغلاق الكاميرا إلى 1/3200 ثانية، ومن دون أن يستعملا تقنية «الفوتوشوب».

لا شك في أن أرضية هذه اللوحة أو سواها من لوحات هذا المشروع مختلفة، فتارة تكون رملية، وتارة أخرى مِلْحية، وتارة ثالثة معشوشبة، وإن تكن الأعشاب جافة متقصّفة كما هي الحال في «الغيمة الصفراء». ورغم عظمة هذا التكوين الذي جمّدته العدسة، إلاّ أن اللون لا يزال يوحي السيلان والحركة.

يرى بعض النقاد الفنيين أن مجمل لوحات هذا المشروع يحمل أصداء من تجارب الفنانين الذين لعبوا على «ثنائية الطاقة والحركة التي تجعل هذه الأخيرة مرئية»، وهي أشبه ما تكون بـ»بالذكريات المعتقلة في الفضاء»، بحسب تعبير الفنان الأميركي جاكسون بولوك 1912 ـ 1956 الذي سبقهما في تنفيذ هذه اللوحات، وقد يكون مُلهِمهما الأول، إضافة إلى فنانين آخرين استعملوا تقنيات الدفع والرّش والتنقيط، وصبّ السوائل اللونية على السطوح التصويرية بمختلف أنواعها الجدارية والمعدنية والخشبية والقماشية والورقية، لحضّ المُشاهد على تلمّس الحركة في صورة ثابتة. فالتكوين لا يزال سائلاً أو متحركاً حتى بعد جفاف السوائل اللونية المبهرجة. فيما يرى نقاد آخرون أن جوهر هذه التقنية يعود إلى الفنان الياباني كاتسوشيكا هوكوساي 1760 ـ 1849 المشهور في «فن الرواشم»، وهي الرسوم التي طُبعت على ألواح خشبية. ولعل أبرز أعماله الفنية ذات العلاقة بالموضوع لوحة «الموجة الكبيرة في كاناغاوا»، أي تلك الموجة التي تُهدد مجموعة من القوارب المحاذية لسواحل مقاطعة كاناغاوا، ويُفترض أنها موجة تسونامي، لكن يُرجِّح البعض الآخر أنها «أوكي نامي» أو «موجة البحر المفتوح»، كما هي الحال في جميع مطبوعات هذه السلسلة التي تضم 36 عملاً فنياً تصوّر المنطقة المحيطة بجبل فوجي في ظل ظروف معيّنة.

يبدو تأثير بولوك قويّاً في لوحة «الحقل الأرجواني»، ويتجسد تماماً بُعده التنقيطي الذي يشغل مساحة واسعة من فضاء اللوحة. وفي السياق ذاته يمكن تلمّس تأثيرات الفنان هارولد إدغرتون الذي جلب التصوير العلمي للحركة في الأزمنة الحديثة، ويكفي أن نشير إلى صوره المذهلة التي ترسخت في ذاكرة محبي التصوير الفوتوغرافي وبالأخص «ضربة كرة القدم»، «تُويج قطرة الحليب» و»رصاصة تخترق تفاحة» وغيرها من الصور المثيرة للانتباه.

يأخذ بعض التكوينات شكل المنحوتات الغريبة الصادمة المنبثقة عن مخيلة فانتازية مجنّحة، كما هي الحال في التكوين البرتقالي القائم على أرضية مِلْحية مستوية يبدو فيها «الفيغر» وكأنه كائن عملاق يهمّ أن ينحني كي يلتقط شيئاً من الأرض المتبّلة بالملح، فيما يتناثر رأس التكوين في الخلفية الزرقاء بأسلوب تنقيطي أيضاً يرقِّط الفضاء المفتوح أمام «الفيغر» الذي يشكّل مشهداً خاطفاً يذكرنا بالرسوم الغرافيّة المعلقة في الهواء.

كذلك يركز المصوران فلوتو ووارنر على المشاهد الفضائية التي ترتفع عن سطح الأرض، بحيث تضطر المتلقي إلى أن ينظر إليها برأس مرفوع قليلاً، ثمة لقطات لونية خاطفة تحاول إمساك الدهشة الكامنة في سطح الأرض المعشوشبة التي تغطي معظمها باللون الأزرق، فيما تناثرت نقاطه الصغيرة لتحوّل فضاء اللوحة إلى ما يشبه السماء المرصعة بالنجوم البعيدة المتلألئة التي تحتفي بها لوحة «العشب الأزرق».

قد تكون «تلال الصحراء الحمراء» التكوين الأكثر إدهاشاً إذ أخذ تشكيلات متعددة لـ»فيغرات» معقدة تجمع بين ما هو سوريالي ومستقبلي وتنقيطي على أرضية وفضاء واقعيين مرشوشين بكرات حمراء، تتساقط من هيكل لكائن خرافي مُدهش انبجس من العدم واستقرّ في لحظة زمنية مهددة بالزوال.

مهما تعددت المؤثرات على فلوتو ووارنر، إلاّ أنهما يبقيان فنانين بارعين في اصطياد اللقطات النادرة التي توحي الحركة، حتى بعد تثبيتها المزمن بعين العدسة التي أفلح أصحابها في الإمساك باللحظات الهاربة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى