مختصر مفيد العثمانية والاتحاد الأوروبي جناحان مكسوران للإمبراطورية الأميركية

مع الاعتراف التركي بأن تغييراً في السياسات يرافق حملة التطبيع التي باشرها الرئيس رجب أردوغان نحو «تل أبيب» وموسكو بالتوازي، ويبشّر أركانه بشمولها مصر وإيران، يرحل رموز العهد التركي الذين رافقوا جنون العظمة ومشروع العثمانية الجديدة، وفي طليعتهم داود أوغلو وحاقان فيدان، كفيلسوف من موقع رئاسة الحكومة والحزب معاً، وذراع تنفيذية من موقع رئاسة الاستخبارات. يظن الكثيرون أنّ الخيارات محصورة أمام قوى محور المقاومة في النظر إلى تركيا، بين تركيا العثمانية السيئة، وبين تركيا العائدة من العثمانية، وهذا يعني الجيدة، وهذا تسرّع ووقوع في الاشتباه، لأنه في كثير من الأحيان كان الإغراء بدور يتناسب مع تطلّعات العثمانية حافزاً لسياسات تناسب محور المقاومة، وكثير من السياسات التي تناسب تركيا الصغيرة، انعزالي وربما أناني، وربما عدواني .

ما نحن بصدده، رصد ظاهرة العثمانية وزوالها، بصفتها الجناح الثاني لصعود المشروع الإمبراطوري الأميركي في مرحلة تعثّر الرهان على الجيوش الأطلسية لإسقاط قلاع آسيا وتطويعها. خصوصاً إيران عقدة البرّ الآسيوي المفتوحة على الصين وروسيا، وسورية الشرفة التي تطلّ منها آسيا على المتوسط، وعقدة أنابيب الغاز والنفط بين العمق الآسيوي وأوروبا. وما يصح في التبدّل التركي يصحّ في التحوّل الأوروبي. فسقوط جاذبية الاتحاد الأوروبي بوعود المنّ والسلوى لشعوبه، والرهان على استعادة الأمجاد الاستعمارية، بعد تفكيك يوغوسلافيا وضمّ دول أوروبا الشرقية والآمال المعقودة على إسقاط أوكرانيا، وإسقاط سورية، ودفع الكلفة العالية لتلقّي اليد العاملة والسلع الزراعية الرخيصة المنافسة من أوروبا الشرقية، واللاجئين وأخيراً الإرهاب أملاً بالغاز الرخيص وبإمساك مفاتيح النفط والغاز الإيرانيين وإغلاقها عن الصين، واحتلال مكانها في الاقتصاد العالمي. السقوط هنا لا يتم لحساب العقلانية والتوجّه المسالم نحو شعوب الشرق الأوسط، بل نحو اليمين واليمين المتطرّف العنصري، ويبشّر بسياسات ينمو معها مناخ التطرّف بين مكوّنات مجتمعات الغرب الأوروبي التي صار المسلمون الواقعون تحت التمييز مكوّناً هاماً فيها، لكن العودة التركية والأوروبية إلى الأحجام الطبيعية تتم، بكل ما لها وما عليها.

كان الرهان الأميركي على التفرّغ لأفريقيا والخليج وشرق آسيا، وتقسيم النفوذ في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية بين الجناحين اللذين يمثلهما مشروع العثمانية الجديدة بقيادة تركيا الأخوانية، ومشروع الاتحاد الأوروبي بقيادة ألمانية فرنسية بريطانية، ولذلك أوكلت معركة سورية لتركيا بصفتها مفتاح النصر والهزيمة في الشرق الأوسط، وأوكلت معركة أوكرانيا لأوروبا، لأنها مفتاح النصر والهزيمة على روسيا، وبين روسيا وسورية يتقرّر مستقبل النظام العالمي الجديد. وعلى رغم أهمية معركة أوكرانيا إلا أنّ سورية كانت ولا تزال الساحة التي يتحدّد فيها حجم روسيا وإيران. ووفقاً لمستقبل سورية يرتسم مستقبل العالم، كما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مراراً، وآخرها أمس تعليقاً على مستقبل العلاقات التركية ـ الروسية .

من سورية سقط جناحا المشروع الامبراطوري الأميركي، الاتحاد الأوروبي والعثمانية، كما يحدث عندما تستعمل مطرقة حديدية لاختراق جدار صخري، فتنكسر المطرقة عندما تتالى الضربات اليائسة على صخر لا يخترق ولا يتكسر، ترتد الطاقة على نقاط ضعف المطرقة فتنكسر ذراعها أو ينفلت رأسها. والذي يحدث الآن ليس خطة واعية متكاملة يمكن استقراء اتجاهها بقدر ما هو تعبير عن قوة الارتدادات الناتجة عن الحرب السورية على الجسمين الصلبين للاتحاد الأوروبي والعثمانية، وإعلان صارخ لبداية التشقّق والتفكّك والتشظّي، وصعوبة التماسك لرسم خطة بديلة، فتحدث ضوضاء الخطاب في كلّ اتجاه، وتختلط المفاهيم، بين حديث عن معنى مبهم جديد للأولويات ونسيج متناقض للتحالفات، وسعي متلعثم لرسم السياسات، والأصل فقدان التوازن .

ما زالت البدايات تتداعى، ولا توازن إلا برسم استراتيجة واضحة للخروج من الحرب السورية، يبدأها الرأس الأميركي، ويتبع الجناحان فالذيل..

ناصر قنديل

ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى