قالت له

قالت له: هل للحبّ عمر يشيخ من بعده ويفنى؟ أم الحبّ كائن أبديّ يتجدّد ويتحوّل لكنه لا يموت؟

فقال لها: وهل تحسّين بشيخوخة حبنا وقرب فنائه؟

فقالت: أحس أنه يمر بمراحل من الرماد، يخرج بعدها كطائر الفينيق حيّاً يرفرف بجناحيه، وأخشى أن يأتي يوم ويبقى رماداً.

فقال لها: الحبّ كائن حيّ يلازمنا ولا يرحل إلا برحيلنا. لكنه قد يتبدّل بمن نحبّ أو من نظن أننا نحبّ. لأننا مع كلّ حبّ جديد نقول هذا هو الحبّ الحقيقيّ، وما قبله كان ظناً بالحبّ. بينما الشعور بالحبّ أشكال وألوان، فمنه ما لا نشعر به إلا وقد صار ذكرى، ومنه ما نحاول التقاطه قبل نفاذ ذخيرته. ومنه ما نتكفّل نحن بموته عندما يصير روتيناً وتكراراً وعطاءً متعباً بغرض الإرضاء. لكن القادر على الحياة منه هو متعدد الألوان والشخصيات. فلا يهرم ولا يشيخ، يصير الحبيب فيه أخاً وصديقاً وأباً وحبيباً، وتصير الحبيبة أختاً وأمّاً وابنةً. ولا ينفصل فيه الحنان عن الانشغال. فالقويّ في حين يصير أباً أو أمّاً، وعندما يضعف يصير ابناً أو ابنةً، ويبقى كلّ منهما وسادة الآخر ومرآته وملاكه الحارس، ولا يتطلب واحدهما من الآخر ما يشعر أنه يريد وقد شعر بقسوة الطلب نفسه بالمثل من قبل، فيجهد كل منهما ليمنح الآخر ما يقدر ويشعر أنه سبب للفرح ويترفعان عن التملك ويكبران على الغيرة، وإلا أصيب الحبّ بأحد المرضين: الذوبان تحت تأثير عوامل التآكل بفعل الزمن، أو الانطواء والضمور بفعل المجاملة والخجل والحرص والحرج، وكلاهما إن لم يفتح نوافذ القلب على الغير فقد يغلقها على الفرح.

فقالت: ومن يريد الفرح للحبيب عليه أن يبادر فيرحل.

فقال: ولم لا يبادر ليكبر فيغادر الغيرة والتملك بدلاً من مغادرة الحبيب؟

فقالت: لأن الحبّ غيرة وتملك. وإلا صار صداقة، وأنا أرضاك صديقاً. فهل ترضاني؟

فقال لها: وقد جمعت معك الحبّ والصداقة، فلماذا تخيّرينني بينهما؟

فقالت: لأنك كلّ يوم ترتدي الوجه الذي تريد، فتربكني وأنا لا أعرف أن أراك كلّ يوم بعين مختلفة. أريد توطين النفس على واحدة ولو بقلب حزين.

فقال لها: أتريدين الحبّ بلا الارتباك وهو ليس إلا ارتباك جدول أعمال حياتنا، وارتباك نبض قلوبنا، والأمان والاطمئنان فيه هما النهاية التي لا قيامة بعدها؟

فقالت: ومتى أشعر بالسكينة؟

فقال: لا يشعر العشاق بالسكينة إلا عندما يموت الحبّ أو يموتون.

فقالت: ألهذا قيل في الحبّ إنه موت في الحياة وحياة في الموت؟

فقال: وقيل حبّ حتى الموت، وقد يكون الموت للحبّ أو للحبيب. فتعالي نحيا بالحبّ بدلاً من أن نمشي في جنازته أو يمشي في جنازتنا. فالحبّ هو سلاحنا الأمضى والأحلى لمكافحة الخوف من قادم اسمه الموت بكل صنف ولون. فما لدينا منه يكفي للفرح من دون تطلّب المزيد، وغالباً طلب المزيد يجلب النقصان.

وعانقها وهي ترمقه بنصف ابتسامة ونصف دمعة، وفي العناق ما بين الرضا والتمنّع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى