الإرادة المسلوبة والحدود المستباحة ما خفي في مشروع «الإخوان»…
د. رائد المصري
لا بدَّ من القول والتأكيد على ضرورة إعادة إحياء الأفكار التي ثبَّتت حضور الدولة القومية وجعلتها أحد أهمّ الإبداعات الإنسانية الناظمة لحركة الشعوب والمؤكِّدة على الهوية الوطنية.
الغرب وأدواته الاستعمارية الجديدة اعتبروا أنّ هذا المفهوم قد عفا عليه الزمن وقد لا يصلح بعد انتشار برامج العولمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
لذا كان اكتساح الولايات المتحدة الأميركية شاملاً للبلدان العربية والمشرقية الضعيفة بالتحديد، عبر إيديولوجيا تقديسية للفرد والإنسان على حساب الوطن والدولة، وربَّما ارتمى الكثير من مثقفينا عن علم أو عن جهل في هذا الارتهان الأعمى ليصبح زوال القومية أو المفهوم القومي الذي بُنيت على أساسه الدولة رديفاً للسيطرة الأميركية والغربية وملازماً لها على الدوام.
ما يعني أنّ سقوط المفهوم القومي يجب أن يُستبدل وتحلّ محله اندفاعة وظهور الخصوصيات الذاتية والإثنيات العرقية والطوائفية والمذهبية والعشائرية القبلية، وهو تقريباً ما نعيشه في عالمنا العربي والإسلامي أيضاً. ذلك أنّ الفراغ الذي تشهده دولنا لن يعود بنا إلاَّ إلى الحروب الدينية والإثنية والعرقية…
بعد المحاولات الجاهدة للمشروع الاستعماري الأميركي وأدواته لوضع يده على دول المنطقة، تمَّ تدمير العراق وجيشه عام 2003 واستدار هذا المشروع الدموي القاتل عام 2006 لإنهاء المقاومة في لبنان ومحاصرتها ففشل، ولمَّا أصابته الانتكاسة المالية عام 2008 استبدل سطوته بوسائل جديدة من الهيمنة ووضع اليد…
ونشير هنا إلى أنه وفي بداية عهد ولاية الرئيس باراك أوباما توجَّه للمسلمين في أول خطاب عالمي له في جامعة القاهرة ومشاركة الأزهر في مصر، مشيداً بالدين الحنيف ومؤكداً أنّ الغرب ليس على عداء مع الإسلام، ليتبيَّن بعدها – حتى لو كان من ضمن السياق التاريخي والاجتماعي- سقوط أهمّ حليف للأميركي وهو مبارك ووصول الإخوان المسلمين الى السلطة، وكان الأميركي أول الداعمين والمرحّبين به. فمشروع الإخوان ليس مشروعاً متواضعاً، فهو طموح يهدف للسيطرة على كل منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، فبدأوا بالقضاء على الجيوش العربية العقائدية بدءاً من سورية، فالعراق واليمن ومن ثم بعدها مصر، ومعلوم أنّ سقوط الجيش يُسقط معه الدولة وجغرافيتها الحدودية وتُصبح مُرتهنة للخارج بالكامل.
حاول الإخوان المسلمون المتحالفون مع المشروع الاستعماري الأميركي تغيير بنى كيانات الدولة العربية الوطنية وشكلها التي قامت بعد انحلال السلطنة العثمانية وبناء عالم إسلامي سنِّي محميّ من الناتو وموالٍ للسياسات الأميركية. وهو مشروع تركي بامتياز تريد من خلاله إعادة أمجاد الأتراك العثمانيين لخمسة قرونٍ مضت، لكن الولايات المتحدة وحلفاءها الجدد يريدون كسر السيادة الوطنية للدولة العربية وتريد أميركا إعادة تشكيل المنطقة لا تقسيمها، لكن وفق الولاء الديني، ليقف هذا المدَّ الديني الإخواني سداً أمام السياسات الروسية كما كان «المجاهدون» أيام أفغانستان والاتحاد السوفياتي، كذلك ليواجه هذا المدّ إيران بأيديولوجيا ظاهرها ديني، لكن باطنها الهيمنة والتسلّط. من هنا عرفنا كيف تخلَّت الولايات المتحدة بسهولة عن حلفائها التاريخيين كحسني مبارك وبن علي لأنهم كانوا عاجزين عن لعب دور عابر لحدود دولهم.
والمفارقة الخطيرة التي نشهدها هي في الاستباحة الممنهجة بواسطة آلات العولمة الاقتصادية والسياسية والمالية للدول وتعميمها في الاستخدام الأمثل بعبور آلاف الإرهابيين الى سورية والعراق واليمن والأردن ولبنان وليبيا وتونس ومصر. واللافت هو التهجير المنظّم وحركة اللجوء والهجرة من سورية والعراق نحو الغرب والمتاجرة بالبشر لمافيات تستفيد من استباحة الحدود وتزجُّ بعناصر سكانية بعيدة عن بيئاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية بغية تطويعها وفق الإرادة الغربية وبما يشكِّلون ربما ما يمكن تسميته «العبيد أو الخدم» لهذه الرأسمالية الصناعية التي شاخت ووجدت نفسها بحاجة إلى تجديد نفسها وماكيناتها. إنّه منطق العولمة المتوحش والرأسمال الاستعماري الذي أباد شعب الهنود الحمر في القارة الأميركية ليزرع سكاناً جدداً من أوروبا وعبيداً من أفريقيا لتطوير الحركة الإنتاجية للرأسمال الصناعي.. وإنه المنطق نفسه الذي اقتلع شعب فلسطين من جذوره وزرع مكانه الشعب اليهودي في دورة استعمارية لحركة رأس المال يُراد من خلالها تصفية شعوب وإزالتها كاملة عن أيّ خريطة…
لذا فإنّ الخوف اليوم كلّ الخوف هو في تصفية قضية فلسطين وإلغاء هويتها القومية المثبَّتة بالأرض ليتمَّ إدراجها ضمن عناوين دينية، فيغادر المسيحي أو ما تبقى منه نحو أوروبا أو أميركا والمسلم نحو دار الإسلام ويبقى اليهودي في أرض فلسطين وتصبح أرضه له وحده ولأبنائه من بعده.
أخلص لأقول إنّ المفارقة الرهيبة هي أنّ الصهيونية وفي صراعها الطويل تهدف إلى تحويل الدين اليهودي الى وجهة قومية يهودية أرضها «إسرائيل» ويصير كلّ يهودي في العالم قومياً إسرائيلياً، وهكذا تجهد الصهيونية وفكرها الإرهابي لتحويل دينها قومية من دون الاعتبار والالتفات للقوميات وللفروق الإثنية في مجتمعاتها، بينما يجهد العرب لتحويل قضيتهم القومية إلى صراعات دينية وإثنية وقبلية مقتتلة في ما بينها. فيبقى السؤال الأخطر اليوم: هل فشل المشروع الإخواني وخروج التنظيمات الإرهابية التكفيرية المتطرفة عن السيطرة سيدفع الإدارة الأميركية لإعادة استخدام المسار نفسه الذي استخدمه المحافظون الجدد أيّ محاربة الإرهاب كحجَّة للتدخل في أيّ مكان في العالم؟ وهل ما نسمِّيه هندسة المجتمعات يدخل في إطار ضرب الجيوش العربية لتحلّ محلها تيارات إسلامية جهادية سلفية وعُنفية تتبوَّأ السلطة وتغيِّر كلّ المعالم الحضارية والتراث الفكري العربي الممتدِّ منذ بدايات التاريخ حتى اليوم؟ وما نتج اليوم بإعادة إحياء وإظهار هذا التحالف بين الوهابية والإخوان والكيان الصهيوني وإعادة تجديده ربما يُنبئُنا بتموضع جديد لهذه الأدوات المتوحشة بيد النظام الاستعماري الغربي في رؤية ومشروع ستتوضَّح معالمه في مُقبل الأيام…
أسئلة مؤرقة رُبّما تتوقف أيضاً الإجابة عليها في صمود الميدان السوري وإسقاط المشروع التركي وضبضبة الانفلاش الخليجي السعودي وحصر الفكر الوهابي عالمياً.. لكنه يتطلب تضحيات كبيرة وكبيرة جداً…