لا تبرير لخطوة تركيا في التطبيع مع «إسرائيل»
رامز مصطفى
شكلت عودة العلاقات الدبلوماسية وتطبيعها بين الجانبين التركي و«الإسرائيلي»، مادّة للسجال بين الكثير من النخب، وصلت إلى حدّ كيل الاتهامات، ولو بشكل مبطن. وهذا ليس بمستغرب لما مثله هذا الاتفاق وعودة العلاقات التركية ـ «الإسرائيلية» من منعطف خطير في هذه المرحلة الحساسة التي تمرّ بها المنطقة برمّتها، والتي وصلت تداعياتها لتطرق أبواب العديد من دول العالم. فتطوّع البعض منهم وبادر إلى تقدير الجهود التي بذلها الرئيس التركي رجب أردوغان من أجل رفع المظلومية الواقعة على الشعب الفلسطيني، وبذل الكثير من أجل مساعدة أهلنا المحاصرين في قطاع غزة، مع بقاء هؤلاء على حذرهم ومحاذرتهم التعرّض للاتفاق التركي «الإسرائيلي»، على الرغم من تمسكهم المبدئي بمواقفهم تجاه الاحتلال «الإسرائيلي». والبعض الآخر ذهب بالمباشر ومن دون أية رتوش سياسية إلى إدانة الخطوة التركية الخطيرة في إعادة علاقاتها الدبلوماسية والتطبيع مع الكيان «الإسرائيلي»، ورأى هؤلاء أنّ خطوة الرئيس التركي في هذا الاتجاه انطوت على الكثير من المخاطر لما ستتركه من تداعيات على مجمل الأوضاع في المنطقة، خصوصاً أنّ محدّدات هذا الاتفاق قد تجاوزت العلاقات في الإطار الثنائي لتتعداه نحو «التنسيق الأمني الكامل على الأراضي السورية»، وأنّ أحد أهدافه منع ما أسمياه «سيطرة إيران على سورية عبر حزب الله». وهذا ما كشفت عنه القناة الثانية العبرية، وما خلصَ إليه «مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي»، إلى «أنّ الاتفاق إيجابي وضروري للدولتين في ظلّ التحديات التي تواجههما أنقرة وتل أبيب، وتحديداً في كلّ من سورية وقطاع غزة».
ولكن من المستغرب أن يجهد كاتب في تجميع ما كتبته وغرّدت به العديد من النخب الفلسطينية الإسلامية، ليصيغ بها مطالعة طويلة تحت عنوان «تركيا أردوغان وجدل ما بعد التطبيع.. النخب الفلسطينية بين التبرير والتشهير»، تُلخص إلى ما رمى من خلالها هذا البعض أن يقوله لنا وللقارئ، عن أنّ تركيا أردوغان كانت مضطرة للذهاب مرة جديدة نحو تطبيع لعلاقاتها مع الكيان «الإسرائيلي». وقد انطوت مطالعة الدفاع تلك على الكثير من المفارقات التي تناقض السياق التبريري للخطوة التركية في التطبيع والاندفاع نحو خطب ودّ الكيان «الإسرائيلي» ورئيس حكومته نتنياهو. وجاءت في السياق التالي:
اعتراف الكاتب بأنّ تطبيع العلاقات التركية مع «إسرائيل» هو موقف ليس من السهل الدفاع عنه، خاصة أنه بلد يتمتع بخاصية قيادية في العالم الإسلامي، من موقع أنه يترأس منظمة التعاون الإسلامي. المفارقة هي في كيفية استسهال الدفاع تارة عن الخطوة التركية، وتارة في صعوبة الدفاع عنها في آن واحد عند الحديث عن التطبيع، على الرغم من أنّ ذلك سيترتب عليه الكثير من المخاطر والتهديدات ليس فقط على الفلسطينيين وحدهم، بل أيضاً على الأمة بأسرها
وإنْ كانت المطالعة تعترف بأنّ التطبيع بمثابة الغصة في حلق الكاتب، ولكنها في المقلب الآخر تعتبره قهر الضرورة، بمعنى أنّ تركيا أردوغان ذهبت إلى التطبيع مضطرة على ذلك، أيّ «مجبرٌ أخاك لا بطل»، وفي هذا تبرير يُناقض موقف الكاتب الذي رأى في التطبيع أمراً ذا خطورة، والكاتب عندما يُقرّر حجب مواقف غير الإسلاميين في قضية على غاية من الأهمية والخطورة، إنما يهدف من وراء ذلك، ألاّ يقف القارئ على حقيقة مواقف النخب والقوى الفلسطينية الأخرى. فهو استعرض فقط مواقف نخبة من الإسلاميين الفلسطينيين، وكأنه يقول إنّ خطوة الرئيس التركي في توقيعه على اتفاق عودة العلاقات مع «إسرائيل»، تحظى بتأييد واسع من الفلسطينيين ونخبهم
لجوء الكاتب إلى جعل قطاع غزة القاسم المشترك بين من وصفهم بالذين قدّموا الكلمة الطيبة لجهود الرئيس أردوغان، ونظروا للمسألة من باب أنّ تركيا لم تدّخر جهداً إلا وبذلته من أجل رفع الحصار والتخفيف من معاناة أبنائه، وبين من وصفهم الكاتب بالجهات المشككة والمتحاملة في الأصل على تركيا. والأدهى أنّ الكاتب قد اتهم هذه الجهات بالتواطؤ من أجل استمرار معاناة شعبنا من خلال الحصار الظالم. وهو قد تناسى أنّ طيفاً واسعاً من الذين أدانوا الخطوة التركية هم في الأصل جزء من الحالة السياسية الفلسطينية المقاومة، وإنْ كانت لهذه الجهات مواقف من السياسات التركية اتجاه سورية، من خلال انخراطها في دعم المجموعات المسلحة العاملة على الأرض السورية بهدف إسقاط الدولة السورية.
ما فائدة احتكاك الكاتب بالعديد من القيادات التركية التي أتاحت له فهم ومعرفة طريقة تفكيرها، لينتهي المطاف ببعضهم وتحديداً الرئيس التركي أردوغان إلى توقيع اتفاق مع «إسرائيل». والكاتب نفسه قد أقرّ في مطالعته بأنّ هذا الاتفاق سيكون له الكثير من المخاطر والتهديدات ليس فقط على الفلسطينيين وحدهم، بل أيضاً على الأمة بأسرها.
من دون الغوص كثيراً في موضوع إقحام الكاتب للمسألة السورية وما يجري على أراضيها، وإظهاره على أنّ الدور التركي اختصر على إبداء النصيحة والمشورة للقيادة السورية إذا ما أرادت نزع ما أسماها الكاتب بـ«الأزمة». وهو الذي أغفل عن عمد عدم استكمال روايته في نصفها الآخر، عندما انخرطت تركيا بما امتلكته من موقع وإمكانيات في الحرب على سورية، من أجل إسقاط الدولة السورية. والقول إنّ تركيا أردوغان قد خسرت سورية عندما دخل «تنظيم الدولة داعش» على خط القتال هناك، متناسياً أنّ «داعش» ومعظم المجموعات المسلحة، إنْ لم نقل بمجملها وجدت الرعاية والاحتضان لها في تركيا.
الكاتب وإنْ اعترف بأنّ السياسة هي درجة احتراق الأيديولوجيا، بمعنى أنّ المصالح هي الحاكمة في السياسة وعلاقاتها، وبذلك هو يُقرّ بأنّ «الغاية تبرر الوسيلة»، حتى ولو كانت القيم الإسلامية التي تحكم تركيا بحسب الكاتب تفرض عليها التزاماً أخلاقياً يحكم تلك المصالح منظومة من القيم والمبادئ.
بعد أن استعرض الكاتب في مطالعته المطوّلة لسياق علاقات تركيا المتصادمة مع سورية والمتأزّمة روسيا بعد إسقاط طائرة السوخوي واتساع الشرخ بينهما، إلى الغرب الأوروبي الذي لم يأخذ بالرؤية التركية لاستقرار المنطقة عبر حلّ الأزمة السورية، أيّ التدخل العسكري المباشر. يذهب الكاتب إلى التبرير الغير مبرّر، بأنّ تركيا أردوغان وجدت نفسها أمام طريق بمسلك أوحد هو التفكير بـ«إسرائيل»، لما أسماه الكاتب بالاعتبارات السياسية والأمنية والإنسانية، حيث أفرد لها نقاطا خمس، جعل منها أنّ «إسرائيل» تشكل خشبة الخلاص لتركيا بهدف التخلص من المشاكل والأزمات التي خلقتها لنفسها وباتت تتهدّدها وتعاني منها. وتلخصت بحاجة تركيا إلى عودة الزخم العلاقة مع أميركا، والمحافظة على مكانة تركيا كممرّ آمن للغاز «الإسرائيلي» نحو أوروبا، وهذا ما أكدته الباحثة غاليا ليندنشتراوس «أنّ تركيا وإسرائيل متفائلتان جداً في ما يتعلق بتصدير الغاز الطبيعي الذي تمّ اكتشافه على السواحل الإسرائيلية إلى تركيا، ومن هناك أوروبا». وحاجتها للجم التطلعات الكردية نحو استقلالهم، بما يشكل خطراً حقيقياً على تركيا واستقرارها. والتهديدات الإرهابية المتعاظمة ضدّ تركيا. وجاءت النقطة الخامسة، في تقديم جهد الاستطاعة التركية للتخفيف من معاناة الفلسطينيين في قطاع غزة، لتدلل أنّ غزة وفك الحصار عن قطاعها لم يشكل عائقاً أمام توقيع الاتفاق التركي «الإسرائيلي»، وهذا ما سميّ بالتفهّم لخطوة تركيا أردوغان من قبل الكاتب والنخبة التي أفاض بها مطالعته للدفاع وتبرير التطبيع مع «إسرائيل».