تكاثرت التحليلات والحقيقة واحدة…

وجدي المصري

أن يكون لكلّ إنسان حق إبداء الرأي بالمسائل المستجدّة، سواء منها السياسية، أم الاقتصادية، أم العسكرية، فهذا مما لا شكّ فيه، خاصة أنّ الدول المتقدمة كفلت هذا الحق في دساتيرها، بغضّ النظر عن توافق التطبيق مع النص ومدى نسبة هذا التطبيق واستنسابيته كما يحصل عادة في لبنان الذي، وعلى عكس كلّ الدول، كلّ مواطن فيه يُدلي برأيه، وبشكلٍ جازم قاطع، دون تقديم أية أدلة تؤيّد هذا الرأي. ولا يكمن العجب في أن يكون كلّ الناس في لبنان محللي سياسية، بل العجب أن نجد إعلاميين ووسائل إعلام ورجال سياسة يطلقون الآراء والتحليلات بعد كلّ حدث، ثم نسمعهم يقولون ما يناقض رأيهم الأول حول الحدث ذاته، أو يأخذون موقفاً سلبياً من موقف ما صدر عن خصمهم السياسي، وموقفاً إيجابياً عن موقف مماثل صدر عن شريك لهم في السياسة.

وللإضاءة أكثر على هذا الموضوع، سأتطرّق إلى مثلين يتكرّران دائماً في الآونة الأخيرة. فبعد كلّ خطاب للسيّد حسن نصرالله يفتح الإعلام المعهود والسياسيون أنفسهم أبواقهم لانتقاد جملة مواقف أطلقها السيد لمجرّد الردّ دون أن يكونوا قد استوعبوا كلامه ونظروا إليه بشكلٍ موضوعي دقيق، همّهم الردّ لا فرق عندهم إنْ كان كلام السيد صحيحاً أو خاطئاً، هو الخصم فلنفتح عليه النار. كان لسماحة السيّد في خطابه الأخير الشجاعة والجرأة والموضوعية على التوضيح بأنّ ما تقوم به الولايات المتحدة من محاولاتٍ للضغط المالي على حزب الله هو مسّ صارخ بسيادة لبنان وعربدة وقحة لا تنسجم مع أبسط القوانين الدولية. فإنْ قال أخصام الحزب بأنّ لها الحق بمواجهة الإرهاب والتضييق عليه قلنا: اين هو تعريف الإرهاب الموحّد الذي توافقت عليه الدول الأعضاء في الأمم المتحدة؟ فما هو إرهاب بالنسبة للولايات المتحدة هو وقوف في وجه الاستعمار الجديد، وفي وجه الصهيونية العالمية والرجعية العربية، بل قل هو فعلٌ متحرّر من قيود هذا الاستعمار وعمل دؤوب لتحرير أرضنا من الاحتلال. وعندما قلّل السيّد من الأضرار اللاحقة بحزب الله وحصرها بالشأن المعنوي، لم ينفِ ضررها على الناس العاديين الذين لا علاقة لهم بحزب الله سوى أنهم من الشّيعة، وهذا يعتبر بنظر كلّ متجرّد قمّة في اللاأخلاقية الإنسانية. وعندما أوضح السيد أنّ المال والسلاح على أنواعه إنما يأتي من إيران كان صادقاً على عكس خصومه الذين يزحفون على بطونهم أمام سفارات الدول يقتاتون من الفتات وينفّذون ما يُطلب منهم وهو حتماً ليس بمصلحة لبنان.

إنها ليست المرة الأولى التي يعلن السيد عن هذا الموضوع، بل هو في كلّ مناسبة كان يتطرّق إلى الدعم الإيراني اللامتناهي للمقاومة، وماذا يعني الدعم غير المال والسلاح؟ أم أنّ هذا الإعلام الموتور وهؤلاء السياسيين لا زالوا في صفوف الحضانة السياسية ويجب تلقينهم كلّ معلومة بالملعقة مع الخبز والشراب؟ بعض هؤلاء قال إنّ هذا الكلام هو بمثابة إخبار يجب أن تتحرك على أثره النيابة العامة فتلاحق مطلقه لأنه أثبت على نفسه ارتباطه بدولةٍ خارجية، والبعض الآخر قال بسخافته المعهودة: أرأيتم إنّ السيد اعترف بأنّ حزبه حزب إيراني. وهنا لا بدّ من طرح بعض الأسئلة على هؤلاء الجهابذة. أولاً أين كانوا عندما صرّح جيفري فيلتمان بأنّه وزّع في لبنان 500 مليون دولار لتشويه سمعة حزب الله؟ هل طالب أحدهم النيابة العامة بأن تسأل هذا المسؤول الأميركي الصهيوني لمَن سلّمهم؟ وهل هذه المبالغ كانت لتمويل مشاريع إنمائية تحتاج إلى مساعداتٍ ومعوناتٍ في الدول الكبيرة والغنيّة، وكلّ الأحزاب وحركات التحرّر تحتاج إلى دولٍ صديقة لتقدّم لها الدعم المادي والعتادي؟

تحديد الصديق والعدو…

يبقى الخلاف بشأن تحديد مَن هو الصديق ومَن هو العدو، ولكي يتمّ ذلك يجب التوافق على مسألة مهمة نفتقدها في لبنان وهي تحديد المهمة والانتماء، وما لم يتمّ ذلك سنبقى نتخبّط في محيطٍ هائج من الأزمات على كافة الصعد. وثانياً من حقنا أن نسأل وماذا عن الذي يأتيه التمويل من السعودية وقطر وتركيا والولايات المتحدة وفرنسا وحتى من «إسرائيل»؟ أم أنّ هناك صيفاً وشتاءً تحت سقفٍ واحد؟ والسؤال الآخر والأهمّ برأيي هو: هل الأموال التي يتلقاها هذا الفريق أو ذاك تخدم مصلحة لبنان أم تضرّ بها؟ ومن الطبيعي هنا أن نعود إلى الجدل البيزنطي حول سلاح حزب الله غير الشرعي، هذه المعزوفة التي لا تزال ملايين جيفري فيلتمان تعزفها على أكثر من آلة. ويبدو أنّ الحَوَل الفكري أصاب الكثيرين هذه الأيام، فالمعنيّون بأمر التآمر على بلادنا، أيّ الولايات المتحدة و«إسرائيل» وأذنابهما من دول غربية وعربية، يعترفون علناً بمخططاتهم الهادفة إلى خلق شرق أوسط جديد يضمن لـ«إسرائيل» ما لا يقلّ عن عقودٍ عشرة من الاستقرار، وبعضهم يعترف علناً أيضاً بأنه هو من أوجد الإرهاب في منطقتنا، والبعض الآخر تبنّى دعم هذا الإرهاب مادياً ولوجستياً ويحاول الآن التغطية على جريمته ببعض التصريحات الداعية إلى مواجهة الإرهاب ومحاربته. فكيف يحق لكم ايّها السادة المطالبة بمساءلة السيد وهو تلقى الدعم من إيران للوقوف في وجه خالقي الإرهاب وداعميه؟ فأين حسّكم الوطني واين السيادة التي بها تنادون؟ لقد آن الأوان أن يكون على رأس وزارة الإعلام وزير ذو توجّه وطني واضح، قادر على اتخاذ قراراتٍ جريئة يُلزم بموجبها كلّ وسائل الإعلام أن تذكر قبل إسم «إسرائيل» كلمة العدو الإسرائيلي لكي ينشأ أطفالنا تنشئة وطنية صحيحة يعرف من خلالها المواطن عدوّه من صديقه، وهكذا يمكن أن نصل إلى الوقت الذي نتحدّث فيه جميعاً من المنظار نفسه ونقيس الأمور بمقياس وطني موحّد.

لا يترك وزير الخارجية السعودي المفوّه و«الحكيم» مناسبة إلا ويطلق صواريخه باتجاه سورية والأسد متوعّداً بأن ينزله عن كرسي الرئاسة بالقوّة، وحتى اللحظة لم يخجل هذا الرجل من طفوليّته السياسية فيرعوي عن مقاصده الوقحة. ومن جهةٍ ثانية يكرّر تصريحاته أيضاً بأنّ إيران وحزب الله لا يريدون رئيساً للجمهورية في لبنان. أما كفاك ايّها المتسكّع في ملاهي واشنطن حقداً وكذباً، فلتكن لديك ولو لمرّة جرأة السيّد وتعلن أنّ للسعودية مصالح في لبنان تتضارب مع المصالح الإيرانية، أو قلها بالفم الملآن إنّ السعودية الوهّابية السنّية لن تسمح لإيران الشيعيّة بأن تضمن مصالحها ليس فقط في لبنان بل في المنطقة، ومن أجل ذلك لن توافق على الجنرال عون المدعوم من حزب الله رئيساً كما أصبح معلوماً لدى الجميع، لاحترمناك عندها، ولكننا نعلم أنّك لستَ من صنف الرجال الذين يجرؤون على المجاهرة بحقائق مواقفهم.

إلى متى الضلال؟

أما المثل الثاني فهو الذي طالعنا به بعضهم بعد العملية الإرهابية التي ضربت بلدة القاع البقاعية والقائل بأنّ مقاتلة حزب الله «للثوّار» في سورية هي استدراج لهؤلاء لمقاتلة حزب الله في عرينه. فإلى متى سيبقى هؤلاء في ضلالهم ثابتين؟ عندما قال وزير الدفاع السابق فايز غصن، وكانت الأحداث في سورية في بدايتها، بأنّ القاعدة أصبحت في عرسال، وقوله هذا كان مستنداً إلى تقارير استخبارية وليس إلى معلوماتٍ سياسية، قامت قيامة الخصوم السياسيين غير آبهين آنذاك بمصلحة الوطن، لنتبيّن بعد حين كم كان على حق، وكم كان يجب البدء منذئذ باتخاذ تدابير الحيطة والحذر. وعندما صرّح بعض مسؤولي التيار الوطني الحرّ بأنّ اللجوء السوري سيشكّل مشكلة إن لم تتخذ التدابير اللازمة لضبطه اتُّهِمَ بالعنصرية، وها نحن اليوم نحصد هذا الزرع السيّئ الذي نما بأيدٍ زراعية لبنانية ضدّ مصلحة لبنان. وعندما أكّد السيّد أكثر من مرّة أنّ التواجد في سورية لمحاربة الإرهاب هو حرب استباقية يقوم بها حزب الله كي لا تمتدّ نار الإرهاب إلى لبنان جرّمه الكثيرون ولا يزالون يطالبونه بالانسحاب لكي نمنع الإرهابيين من الدخول إلى لبنان وترويع أبنائه وقتلهم بِاسم الله وبِاسم الدين. وهم لغاية الساعة يناقضون أنفسهم ويحللون الأمور على هواهم متجاهلين الحقيقة الواضحة وهي ما سُمّيَ مجازاً بـ«الرّبيع العربي»، لم يعُد جائزاً أن نستمرّ بازدواجيّتنا لجهة القول بمحاربة الإرهاب ودعمه في نفس الوقت وتصدّينا لمواجهته بِاسم المذهب والدّين. آن لكم أن تعوا بأنّ هذا الإرهاب وصمة عار على جميع الأديان. فهو وصمة عار على المسلمين الذين لا يفعلون شيئاً لوقف انتشاره، بل إنّ الفتاوى الصادرة عن معظم رجال الدين ليس من شأنها إلا تغذية هذا الإرهاب. وهو وصمة عار على المسيحيين لأنّ التشدّد ضدّ المسلمين وتعميم الإرهاب عليهم إنما يولّد ردّود فعل ترفد الإرهاب بمزيدٍ من الدعم المعنوي. وهو بالطبع ليس وصمة عار على اليهود لأنهم أصل الإرهاب، ولأنّ دينهم يشجّع على الإرهاب، ولأنّ إلههم هو مَن عبّد أمامهم طريق الإرهاب، ولقد أوضحتُ ذلك في دراساتٍ سابقة.

لقد بدأ الإرهابيون الإعداد لإعلان جزء من لبنان إمارة إسلامية قبل أن يفكّر حزب الله بـ«التدخّل في سورية»، وهذا يؤكد بأنّ حربه كانت استباقية وبأنه يتحمّل المسؤولية عن كامل الللبنانيين دون منّة. أما قول بعض السياسيين متسائلاً عمّن كلّف حزب الله بهذه المهمّة فهو قول سخيف، فما من مقاومة في التاريخ طلبت إذناً من أحد، أو أقدمت على إجراء استفتاء شعبي قبل إقدامها على البدء بالمقاومة.

واخيراً أتوجّه إلى إعلامنا الذي أصبح مضرب مثل بالغباء بأن يكفّ عن نفخ جمار الطائفية. فصحيح أنّ الإرهاب ضرب منطقةٍ مسيحية، وصحيح بأنّ الإرهاب يستهدف اقتلاع المسيحيين مما يسمّيه «أرض الخلافة»، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ هذا الإرهاب يستهدف كلّ الناس على القاعدة «البوشية» مَن ليس معي فهو عدوّي وينتمي إلى محور الشرّ. فليكن توجّهك ايها الإعلام توجّهاً وطنياً، وكم هو جميل أن نصل إلى اليوم الذي لا نعود فيه نسمع عباراتٍ طائفية ومذهبية، وحديثاً عن مصالح هذه الطائفة أو تلك. فليكن توجّهكم وطنياً صرفاً، فالإرهاب في الضاحية هو ذاته في طرابلس، وهو ذاته في بيروت، وهو ذاته في القاع، أو في ايّة مدينة أو قرية دون النظر إلى الأكثرية السكانية إنْ كانت من هذه الطائفة أو تلك، أو من هذا المذهب أو ذاك. دورك أيّها الإعلام عدم إبراز الأمور التي يُراد منها الحقن الطائفي والتعتيم عليها. أنتَ أيّها الإعلام بغبائكَ وبقصد السبق الصحافي خلقتَ ظاهرة أحمد الأسير، فلو لم تكترث له وتسخّر له الشاشات لما علِم به أحد ولأنطفأ كسراجٍ باهت. عليكَ أن تقود الحملة على السياسيين الطائفيين الذين يحاولون دائماً تكريس الطائفية لحماية مصالحهم من خلال مطالبتهم بمصالح طائفتهم. يجب أن تقرّ أيّها الإعلام أيّ وطن تريد فتسدّد خُطاك للمساهمة بتحقيق هذا الحلم.

قلّلوا من التحليل واسعوا للحقيقة فهي التي تحرّركم من ارتهانكم، وهي التي تؤكد مصداقيّتكم، فلا تضيّعوا البوصلة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى