ذاكرة ليست للنسيان… القدس في الرواية الفلسطينية
عمر جمعة
استأثرت مدينة القدس بدلالاتها التاريخية ومكوّناتها الحضارية والإنسانية بالحيّز الأكبر من اهتمام الكتّاب الفلسطينيين والعرب، حتى غدت من حيث القداسة والمكانة الدينيّة سمة دالة على ارتباط الكاتب بأرضه وشعبه والذاكرة المتوارثة الحيّة، التي تعدّ أولى القبلتين إحدى تجلياتها وعلاماتها الأبرز.
ولئن كتب الروائيون العرب أعمالاً تمجّد هذه المدينة وتكشف معاناتها والدنس اليهودي الذي أصابها، إلا أن الكتّاب الفلسطينيين، خصوصاً من عاش منهم تحت الاحتلال، كانوا أكثر قرباً وهم يرون أزقة المدينة المقدسة وشوارعها وأحياءها تُصادَر وتهوَّد وتسمّى بمسمّيات عبرية بغية محو هويتها العربية الإسلامية والمسيحية على حدّ سواء.
لقد أخلصت الرواية الفلسطينية لقضية القدس، حتى باتت روحها ومرتكزها وحاملها الأساسي في جملة مقولاتها المختلفة، إذ لم تكتفِ بالتأريخ لهذه المدينة المحتلة أو استعادة الذكريات التي انتهكها الصهاينة وعصاباتهم، أو التغني بماضيها الأزلي، بل نقبّت في حكاياتها وخلقت شخوصاً ترسم معالمها القادمة على أجنحة الحلم بالعودة إليها أحياء أو أمواتاً. وبرزت تجارب كثيرة لروائيين فلسطينيين كتبوا عن القدس. لعلّ من أهمها ما كتبه محمود شقير في «نهاية ظلّ آخر للمدينة»، وحسن حميد في «مدينة الله»، وعيسى بلاطة في «عائد إلى القدس»، وسحر خليفة في «صورة وأيقونة وعهد قديم»، ونبيل خوري في «حارة النصارى»، وإبراهيم الصوص في «بعيداً عن القدس»، وعلاء حليحل في «مقدسية أنا»، وديمة السمان في «برج اللقلق» وسواهم.
على أن ما ميّز هذه الروايات على اختلاف مراحل كتابتها وإصدارها، أنها تحدثت عن فترات زمنية لمدينة القدس وجسّدت المكان والزمان والشخوص واقعياً، وصوّرت الحياة اليومية للمقدسيين وتاريخهم في تلك المدينة العتيقة.
ففي «برج اللقلق»، وهو اسم منطقة في مدينة القدس، مرتفعة جميلة خلابة، تقدّم الكاتبة المقدسية ديمة السمان عالماً مليئاً بالذكريات، حيث عاشت في بيت جدّها الموغل في القدم، فتعرض السمان حكايات سكان القدس في برج اللقلق في فترة الاحتلال العثماني للقدس وما تلاها، والمجاعة التي أُطلق عليها وقتذاك «سفر برلك» وأصابت بلاد الشام كلّها. مؤكدة بالقول: «دافعي للكتابة كان لقربي من أبطال الرواية، فهم عائلتي وأهلي، ففي كل بيت بالقدس قصة إنسانية يصعب على التاريخ ذكرها بينما تتجسّد بأبهى صورها في الرواية».
فيما اختار الكاتب حسن حميد في روايته «مدينة الله»، أن يجول بنا في أمكنة مدينة القدس وأحيائها وتفصيلاتها الصغيرة من خلال رسائل كتبها الروسي فلاديمير بودنسكي إلى أستاذه ومواطنه جورجي إيفان، ليعرض العذابات التي يتعرّض لها الفلسطينيون على أيدي «البغالة» المحتلين بما يمثلونه من كره وحقد وخبث وخوف دائم. ويصل بنا إلى مقولة الغالب الأعم من المدوّنات والروايات الفلسطينية أن مدينة القدس المكان والتاريخ والجغرافيا ستبقى عربية. فهي أبداً مشغولة بفرادتها وأنفاسها ونهوضها العربي.
في حين لجأ الأديب محمود شقير في «نهاية ظلّ آخر للمدينة» إلى لعبة السرد السيري ليروي تاريخ المدينة من الداخل، مشدّداً على سيرة المكان في مواجهة ما تعرّضت له المدينة المقدسة من تغيير لمعالمها بدءاً من عام 1967 بإعلان القدس محتلة، مروراً بطرد السكان المقدسيين وهدم منازلهم وتجريف بساتينهم، وصولاً إلى سياسة التهويد «الإسرائيلية» التي تهدّد اليوم المدينة برمّتها.
وفي «عائد إلى القدس» يصوّر عيسى بلاطة وهو من مواليد القدس، مرارة المنفى بعد احتلال المدينة وقصّة التشرّد واللجوء، الذي لم يكن ليحول دون حلم العودة إلى مرابع الطفولة الأولى، فبطل الرواية الأستاذ فؤاد سرحان، يروي لنا حكاية دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت، وسفره إلى أميركا للتدريس في جامعاتها. وكيف تدعوه وداد إلى حفلة عيد ميلادها، لنتعرف من خلال حوارهما على طفولتهما في القدس ودراستهما معاً في بيروت، حيث يقول: «نشأنا طفلين في حيّ واحد، فكنّا نلعب بالحارة معاً بنشاط عنيف لا تقلّل منه حرارة الشمس الصيفية، فيتصبّب عرقنا ويجفّ ريقنا فندخل إلى بيت وداد لاهثين، مارين من دهليز المدخل البارد إلى ساحة البيت الداخلية ونتجه إلى بيت السفرة ونغرف بكيلة من الزير الفخاري الموضوع في الزاوية ونشرب ماء نطفئ به عطشنا، وهو ماء ليس مثله أي ماء مثلج في هذه الأيام».
في حين تحكي البطلة وداد عن حزن أهل المدينة وطريقة معيشتهم أيام كانت في القدس منذ كان عمرها ست سنوات، وعن مغادرة منزلها في القطمون عام 1948 بسبب الحرب وإقامتها في البلدة القديمة، ملمحة إلى ما ألمّ بها المآسي والنوائب.
أما الكاتبة سحر خليفة في «صورة وأيقونة وعهد قديم» التي تُعدّ من عيون الروايات التي كُتبت عن طبيعة سكان القدس، فتختصر في روايتها تاريخ فلسطين والتعايش الأزلي بين المسلمين والمسيحيين.
تحكي الرواية قصة العشق المستحيل بين إبراهيم المسلم، ومريم النصرانية لنكتشف أن خليفة أرادت أن تقول إن رمزية القدس ومكانتها وقداستها تساوي طهر مريم العذراء وتوازيها، يقول إبراهيم: «مريم كانت تحمل أجمل ذكرى، أغلى تاريخ، أحلى صورة، كانت في الغربة تحضرني، فأحسّ بروحي تسحبني لأجواء القدس، وعقود من كارب وقرنفل تحيط بعنقي، وتغلّفني، فتحيل القلب إلى عاشق في العشرينات، من ذاك الزمن كان صديقي، بل كان الحب وكنت أنا مثل الدوري، لي أجنحة وعيون من ذهب ومرايا تكتشف العالم من حولي وقباب القدس. القدس الآن قدس أخرى، قدس التاريخ لكن القدس كانت مريم».
إن انتماء إبراهيم إلى عائلة مسلمة، ومريم إلى عائلة مسيحية، انتماء كلّ مقدسيّ، لا بل كل فلسطيني، إذ لم تستطع «إسرائيل» أن تفرّق بين قلبين مجبولين بتراب أرض المحبة والسلام «القدس». يقول العاشق المقدسي: «لا أدري متى وكيف أحببت مريم، أو ربما ما بهرني هو ذلك الجو، وما يمثله من سحر وغموض، أو ربما كانت مريم وما أحاط بها من قصص غريبة هي المسؤولة عما انتاب مخيلتي من أحلام. بتُّ عاشقاً من دون تسلسل. أفقت فجأة وإذا بي متيّم لا أقوى على التركيز على شيء ما. بتُّ ملهوفاً مليئاً بالشوق والأحزان من دون سبب منطقيّ أستطيع فهمه. لم أرها عن قرب، لم أسمعها، لم أحدّثها، بل لم تعرفني على الإطلاق طوال شهور».
في رواية «صورة وأيقونة وعهد قديم» التي يتعمّق فيها التوثيق وذكر أسماء الأماكن المعروفة «الصخرة، الكنيسة، سور القدس، الأقواس، قمة الزيتون، القبة النحاسية»، تعاين سحر خليفة واقع المدينة المقدّسة منذ حرب 1967 وحتى بداية الانتفاضة الأولى عام 1987، فنلمس أيّ فجيعة يحسّها المرء وأيّ عجز يعتريه وهو يرى حلمه يتهاوى مع سقوط مدينة القدس وضياعها، وكيف تفتّت الغربة روحه إلى شظايا، إذ حين يعود إبراهيم إليها يهذي بالقول: «بتنا شظايا. وهكذا تغيّر حالي وصار إبراهيم غير إبراهيم، وصارت القدس هي غير القدس، وصارت أحلامي هموماً ووحدة وفراغاً والزهايمر وضياع القدس».
لقد ساهمت الأعمال الروائية المذكورة وغيرها من الروايات الفلسطينية والعربية في التأكيد على مكانة القدس وهويتها العربية. مشيرة إلى أن سياسة الإبعاد والاقتلاع التي مارسها الصهاينة ضدّ العرب المقدسيين كان تزيدهم إصراراً على التشبث بتراب هذه المدينة المقدسة التي لا يملك أيّ كان المساومة عليها. ولئن جاهد الروائيون خصوصاً والأدباء عموماً في شرح معاناتها والظلم الذي لحق بأبنائها، فإن الشعب العربي بمسلميه ومسيحييه يدرك أن القدس عائدة عائدة مهما استلزم ذلك من تضحيات، فهي ذاكرة غير قابلة للطيّ أو التفريط أو النسيان!
كاتب فلسطيني