من لينين إلى الخميني
د. صادق النابلسي
عندما كتب لينين مقاله الشهير المعنون بمَ نبدأ؟ كان يتحدث عن خريطة وعي ومنهج وخطوات عملية ينبغي من خلالها إيجاد أرضية للفكرة التي يؤمن بها، وكيف يمكن لها أن تستقرّ في مجالها وأرضها السياسية. الثوري البلشفي المنفتح على معرفة الظواهر المجتمعية والباحث في قواعد التطور التاريخي، مارس النضال على مسرح الأفكار من وجهة نظره السياسية والفلسفية ليحقق تطلعاً، على مساحة العالم، يظهر للملأ سياقه وتحيّزه مرئياً وملموساً. كان غرضه تجاوز استكشاف الواقع إلى ما يتمخّض عنه الواقع نفسه من نشأة مستأنفة وعالم محدث على ما يذهب إليه ابن خلدون. بدا للينين أن يبدأ من نقطة ما ليترجم تطلعات الاشتراكيين الديمقراطيين الكبرى التي تربطهم ببقية الأمم، انطلاقاً من البؤرة النضالية الأولى روسيا . فجعل من المهام الأساسية في الطريق لبلوغ الأهداف أقانيم ثلاثة: التحريض السياسي، الواجبات التنظيمية، ومشروع إنشاء منظمة كفاحية لعامة روسيا. ربح لينين التحدي بسقوط الحكم القيصري، وحين قاد ثورةً عام 1917 أدت إلى وصول الحزب البلشفي الذي ترأسه إلى السلطة. لكنّ الاشتراكية التي كان يروج لها سرعان ما سقطت في حقول الفراغ والالتباس والتناقض والانتهازية مع مرور أول محطة من محطات الزمن، وترنّحت عندما قدّمت الأيديولوجيا على الأخلاق وأعطت الأولوية للمصالح الحزبية على أولوية القضايا الإنسانية. وبالتالي كان احتضار معظم التجارب الاشتراكية انطلاقاً من بلدان الاتحاد السوفياتي إلى دول أوروبا وأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية تحت حكم الديكتاتور أو الحزب المركز أمراً طبيعياً ويقينياً، لأنّ قضية الإنسان وحرية الشعوب لا تتعلق بإضافة إيديولوجيا ثورية في بعدين أو أكثر من أبعاد الحياة بل بمنظومة من القيم تشكل العمود الفقري لوجود الإنسان ودوره وعلاقاته بالأرض وارتباطاته بالسماء.
وعلى غرار لينين بدأ الإمام الخميني من نقطة ما. هذه البداية بديهية لصيقة بكلّ قائد ثورة وغير قابلة للاستنفاد. الكاسيت كان المعادل لــ الايسكرا . تولت جريدة الايسكرا مهمة الدعاية والتحريض السياسي والتربية على النشاط الثوري، وتولى الكاسيت التعبئة والتثقيف وبثّ المشاعر الثورية لدى الإيرانيين. ومقابل الحزب الطليعي الذي يسترشد بنظرية الطليعة الثورية ليقود النضال البروليتاري استناداً إلى مقولة: لا حركة ثورية من دون نظرية ثورية كان هناك حركة المستضعفين الذين يجب أن يعدّوا أنفسهم لمواجهة المستكبرين في إطار نظرية ولاية الفقيه . ومقابل الحزب الأحمر كان الباسدران والباسيج وأيضاً حزب الله. ومثلما كان لينين أممياً وتناول قضايا الحياة برؤية اشتراكية، كان الإمام الخميني أممياً بالقدر نفسه لكنه تناول مسائل الكون والوجود والإنسان والحياة برؤية إسلامية، مؤكداً على أنّ حرية الشعوب لا يمكن إبطالها من قبل أية إرادة سلطوية جبروتية، وأنّ المطلوب من الشعوب المستضعفة أن تعلن عن وجودها أمام المستكبرين.
أول نجاحات الثورة البلشفية سقوط قيصر روسيا غير أنّ قيمها لم تتمكن من الاستمرار في عوامل نجاحها بسبب نزعة السلطة وقصور الفكرة التي غدت أشبه بسحابة ميّتة يُرمق إليها من بعيد. وأول نجاحات الثورة الإيرانية سقوط شاه إيران ليس عرشاً فحسب وإنما كفكرة ومشروع داخل الأمة. لم يعد الشعب الإيراني هياكل مصفدة بالحديد ولا يقبع ميتاً أو حياً في نواويس حجرية. أعار جناحيه للإمام كي يشرف على هذا الكون الفاني/ من أعلى القباب الخالدة – شاعر بولونيا آدم ميسكييفتش . بعد المرحلة التأسيسيّة توالت الخطوات تبشر بأفق جديد. تمشي الثورة في طريق التكامل الذاتي متغلّبة على تحديات الولادة وصعوبات البناء فمخاطر التمدّد. اتضح حجم الثورة أشدّ ما اتضح من خلال البعد الفلسطيني. أطاح الإمام بالعلاقات المميّزة التي كانت تربط الشاه بحكومات الكيان «الإسرائيلي». حوّل سفارة «إسرائيل» إلى سفارة فلسطين. أعلن عن يوم عالمي للقدس وعدّه يوم مواجهة المستضعفين للمستكبرين. وتحرّك في إطار الأبعاد الثلاثة التحريض السياسي، والتنظيم، وإنشاء القوة العسكرية بهدف استعادة فلسطين. ولا شك فقد أتاحت خطابات الإمام حول فلسطين إمداد الفلسطينيين بالأمل والإرادة بعدما سعى الاستكبار وعملاؤه إلى قهر إرادة المقاومة في نفوسهم، وجرّهم إلى تسوية مذلة تحول بينهم وبين متابعة المسيرة لاسترداد أرضهم المغتصبة. وسرعان ما انبعثت العافية في صفوف المقاومين تضيء فسحة في زمن ضاع بأوهام التفاؤل العربي. لم يسأل الغرب والشرق لمَ قدّر للفلسطينيين أن يكونوا بؤساء تعساء إلى هذا الحدّ والبشرية لا تجيد حتى الساعة غير بعض الكلمات الشحيبة. أمّا مجلس الأمن المسؤول عن العدل وحق الشعوب في تقرير مصيرها فلم يُعهد عنه سوى جلوس القرفصاء وسدّ أذنيه وإغماض عينيه أمام الجريمة المتواصلة. تتبلّل غزة اليوم بالدماء، فيما العرب نائمون والمسلمون في جليد البلادة أو نار الفتنة ولم يعد المثال الذي ساقه الإمام الخميني وفحواه لو أنّ كل مسلم أخذ دلواً من الماء وأراقه على «إسرائيل» لغرقت يُذكر إلا من باب التحسّر بعدما أصبح التكفير بين أبناء القبلة الواحدة والكتاب الواحد والنبي الواحد، وقطع الرؤوس وشق الصدور حقيقة تاريخية لا يرقى إليها شك. عندما بدأ لينين مشواره النضالي قال: إنّ شعارنا في الظرف الراهن لا يمكن أن يكون «الإقدام على الهجوم»، بل يجب أن يكون «ضرب حصار محكم حول قلعة العدو» . وعندما بدأ الإمام الخميني يصدح بصوته النبوي إسرائيل غدّة سرطانية يجب أن تزول من الوجود ، كان يضيّق الحصار حول قلعة العدو. انتصار المقاومة عام 2006 أبرز مثال على ذلك. الآن صواريخ المقاومة تنهمر على القدس وتل أبيب. اقترب الحلم. خاتمة الصبر بلغت سمتها. فلسطين لنا، لكم أيها المستضعفون. من يدقق النظر بفضول في وجه الإمام الثائر يعرف مغزى شعاره: «اليوم إيران وغداً فلسطين». ومن يقرأ رسالة قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني للمقاومة الفلسطينية والتي جاء فيها: «نؤكد أننا مستمرّون بإصرار على نصرة المقاومة ودفعها إلى النصر حتى تصير الأرض والجو والبحر جهنماً للصهاينة»، وتصريح القائد العام للحرس الثوري اللواء محمد علي جعفري ومضمونه «إنّ ساحة فدائنا وتضحياتنا هي العالم الإسلامي كله ومستضعفي العالم»، يدرك أننا مقبلون على مرحلة حاسمة في تاريخ المنطقة بأسرها أيسرها زوال الكيان الإسرائيلي!