الأبعاد الأميركية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
تزاحمت الأولويات السياسية في واشنطن بين تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإيلاء الاهتمام المطلوب لقمة دول حلف الناتو المقبلة في بولندا.
سيستعرض قسم التحليل آفاق وتداعيات خروج بريطانيا في البعد الأميركي، وما قد ينجم عنه من آثار في علاقات أميركا مع كلّ من بريطانيا والاتحاد الأوروبي وانعكاس كلّ ذلك الحراك على السباق الانتخابي الأميركي.
مناورات حلف الناتو
اعتبرت مؤسسة هاريتاج مؤتمر القمة المقبل لحلف الناتو، الذي سيعقد لأول مرة في بولندا، الحديقة الخلفية لروسيا، انّ من شأنه «إعادة تصويب البوصلة الغربية للدور الحيوي الذي تلعبه تركيا في البعد الأمني للحلف، على الرغم من العلاقات المعقدة والمتشابكة بين دول أوروبا الغربية وأميركا، من ناحية، والرئيس التركي أردوغان». وأوضحت انّ «قلق» دول الحلف من تصرفات الدولة التركية في مجال انتهاكات حقوق الإنسان «ينبغي إثارتها مع أنقرة خارج نطاق حلف الناتو، اذ لا يزال الحلف بحاجة إلى تركيا ولذات الأسباب التي سادت فترة الحرب الباردة انها حقيقة جيوسياسية، وآن الأوان لصنّاع القرار الأميركي الإقرار بذلك». وأضاف انّ المطلوب من أقطاب الحلف «الانخراط التامّ مع تركيا وفق الإطار الراهن، وليس إقصاء تركيا.
استعرض صندوق جيرمان مارشال الالماني قمة حلف الناتو المرتقبة في ضوء تصويت بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي، مناشداً «الرئيس أوباما وأقرانه الأوروبيين تبني خطاب يلهم مواطنيهم لتفهّم ما جرى، والذي بعمقه ينطوي على مفاضلة الوحدة عبر الأطلسي وتتخطى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، اللذين يشكلان الركائز الأساسية لنظام دولي ليبرالي، تمّ ارساؤه سوياً». واستدرك بالقول انّ الطرفين، الأميركي والأوروبي، باستطاعتهما «إدارة التغييرات، التي تمرّ بها تلك المؤسسات» والتأقلم معها، «فالاتحاد الأوروبي وحلف الناتو ليسا هدفين نهائيين بحدّ ذاتهما، بل يؤدّيان خدمة تصبّ في مهمة أشمل لدعم أصول الحكم الديمقراطي، والمجتمعات المفتوحة، وسيادة القانون، واقتصاد السوق الحرة».
في المقابل، تناول معهد كارنيغي مسألة قمة الناتو من خلال «بلورة استراتيجية للتعامل مع التهديدات المحدقة بالجناح الجنوبي للحلف، لا سيما أنّ المنطقة تتعرّض لسلسلة معقدة ومختلفة من التهديدات التي مصدرها مزيج من قوى تابعة للدولة وأخرى خارجها». وأوضح انه ينبغي على قادة الحلف «بلورة استراتيجية للردّ على مروحة واسعة من التهديدات المحتملة والتي تضمّ أوجه القصور في الأمن الإنساني الناجمة عن الحروب الأهلية وفشل سياسات الدول المعنية، وانتشار أسلحة غير نووية ذات قدرة تدميرية شاملة، والتهديدات في المشرق الذي تجسّده الاستعدادات العسكرية الروسية في سورية، والأسلحة الاستراتيجية التي تطوّرها إيران». واضاف انّ المطلوب إنجازه هو «توجه سياسي جماعي يعكس تنوّع مصادر التهديد».
الأردن
الحادث الإرهابي الأخير الذي استهدف نقطة عسكرية أردنية مرابطة على الحدود المشتركة مع سورية والعراق كان من ضمن اهتمامات معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، مؤكداً «أنها ليست المرة الأولى التي يواجه فيها الأردن تهديداً إرهابياً متواصلاً، بيد انه مع استمرار الحرب في سورية عاد التهديد ليظهر من جديد»، خاصة بعد كشف علاقة الجاني في الهجوم على مقرّ للمخابرات الأردنية بالقرب من مخيم البقعة وكونه «ابن شقيق عضو سابق في البرلمان، مما يبعث على القلق». وأضاف انّ «الأردن هو أفضل حلفاء واشنطن العرب، وانخراط نحو 2500 أردني بصفوف المقاتلين الأجانب في سورية، لا سيما انّها الشريحة الأوفر حظاً من سكان الأردن قرّرت التوجه للتشدّد الإسلامي وانّ الايديولوجية التكفيرية قادرة على اختراق الحدود اذ اضحى الخطر الحقيقي من تنظيم داعش ليس من الخارج، بل في الداخل». واردف ان «الايديولوجية الاسلامية المتطرفة تتوغل في صفوف الطبقة الوسطى في الأردن، وفي صفوف الطلاب والمتعلمين بطريق لم يسبق لها مثيل، مما يدلّ على انّ استراتيجية الحكومة لمكافحة التطرف العنيف غير جدية وغير مقنعة». وخلص المعهد بالقول انّ «الدعم المالي وحده لا يشكل الآن الحلّ لمشكلة الإرهاب التي تواجهها الأردن، بل انّ استمرار سياسة اللامبالاة من قبل ادارة الرئيس باراك اوباما من شأنها التأثير الضارّ على الأمن في المملكة، وكلما طالت الحرب في سورية، زاد الخطر الذي تشكله تداعيات الامتداد الايديولوجي للمتشدّدين الاسلاميين على الأردن».
إيران
دق معهد كارنيغي ناقوس الخطر من جهود «التفتيش النووية في إيران، التي ضمّت تقاريرها تفاصيل ضئيلة حول جهود إيران القائمة لتخصيب اليورانيوم». واضاف انه استناداً الى التقرير الدولي المذكور فإنه «أشار الى تجاوز إيران لسقف اقتنائها من المياه الثقيلة وعليه كانت خارج الامتثال لبعض الوقت لحين نقلها الحجم الزائد الى موقع خارج البلاد». وأوضح انه عند النقطة المشار اليها «وافقت الولايات المتحدة على شراء فائض إيران من المياه الثقيلة».
لفت معهد المشروع الأميركي انتباه صنّاع القرار السياسي الى التغييرات والتنقلات داخل صفوف القيادة العسكرية الإيرانية لا سيما «لإقصاء قائد هيئة الأركان الجنرال حسن فيروزابادي، واستبداله برتبة عسكرية عالية من صفوف الحرس الثوري اللواء محمد باغري » مما قد يشير الى أبعاد أخرى وراء التغيير محوره «نية المرشد الأعلى علي خامنئي لرفع دور وأهمية قيادة الأركان في تنسيق القطاعات العسكرية المختلفة وتزايد دورها المشترك في الخارج مثل سورية».
تركيا
ضاق معهد المشروع الأميركي ذرعاً بالرئيس التركي مطالباً باستقالته من منصبه على ضوء العمليات الإرهابية الأخيرة في مطار اسطنبول قائلاً: «تركيا ليست ديمقراطية، والآن فإنه ضرب من الخيال توقع تقديم أردوغان استقالته فهو لا يعير اهتماماً لأيّ قضية باستثناء ما يمسّه شخصياً ومراكمة رصيده في البنوك». واستعرض المعهد الانتهاكات المستدامة في ظلّ حكومة أردوغان «ومجرد انتقاده يعود بالسجن على صاحبه. وصحافتها أصابها الابتزاز، وأضحت عاجزة وعرضة للترهيب أو النفي». وشدّد انتقاده بالقول «ربما كان تنظيم داعش هو المسؤول عن هجمات الأمس مطار اسطنبول ، لكن الاتراك مثلهم مثل معظم العالم الخارجي يدرك انّ عدم كفاءة أردوغان قد اسهم بشنّ تلك الهجمات».
تحذير أميركي مبكر
استقرأت النخب الفكرية والسياسية الأميركية تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مبكراً، لما سيحدثه من هزة سياسية واسعة واعتبرته «صدمة كبرى» نظراً لأنّ «تأثيره سيتجاوز المصالح البريطانية والأوروبية، وسيكون غير مرغوب فيه في الواقع وسوف يُستقبل بكثير من الأسف والقلق من قبل أقرب حلفائها بالتأكيد».
وبلغ الحماس ببعض أقطابها مبلغاً دفعها لمطالبة «الأطراف الأخرى ان تتدخل، وهو أمر مشروع ومناسب»، كما أوضح رئيس مجلس العلاقات الخارجية الرصين، ريتشارد هاس، 15 شباط 2016 ومن شأن خروج بريطانيا «ان يؤدّي بها الى شيء آخر غير مملكة متحدة أكثر ضيقاً وأقلّ تأثيراً، وسيعزز النفوذ الألماني، الذي لن يكون صحياً على المدى الطويل».
ومضى هاس موضحاً مركزية مكانة بريطانيا بالنسبة لأميركا بأنّ الاولى «تعدّ مهمة ليس كشريك فقط، بل ايضاً كدولة صديقة يمكن الاعتماد عليها، لدعم مواقف تتفق مع مصالح الولايات المتحدة في بروكسل مقرّ الاتحاد الأوروبي ، او لدعم مواقف ليست بعيدة عنها على الأقلّ».
مناهضة الأوربيين للهيمنة الأميركية تعلو وتخبو مع الزمن. وعبّر المؤرخ الانكليزي الكساندر ويرث عن نزعة الاستقلالية لدى أوساط أوروبية عديدة، لا سيما في فرنسا الخمسينيات بالقول انّ «تحوّل خطة مارشال التنموية لأوروبا الى تحالف مقدّس ضدّ الشيوعية يعني انّ الأولوية ينبغي ان تعطى للمساعدات العسكرية الأميركية ، والتوقعات تقتضي من الدول الأوروبية زيادة إنفاقاتها العسكرية، مما يفاقم معدّلات التضخم» داخل بلدانها. وأضاف انها أيضاً «تصعيد لوتيرة الحرب الباردة، كمشروع أميركي لحفظ السلام بأدنى كلفة ممكنة والذي أضحى أحد أكبر مخاطر الحرب منذ تحرير» القارة.
الخروج مسؤولية من؟
شبكة بي بي سي للأنباء ذهبت أبعد من ذلك، 12 أيار 2016، لتوضيح «العلاقة الخاصة» بين البلدين التي تشير الى «تبادل غير مسبوق لمعلومات استخبارية وتعاون في مجال الدفاع، كما يوجد نحو 800 جندي بريطاني في أميركا يخدمون في جميع فروع الجيش الأميركي » والتي ستتأثر سلباً بمجموعها، وفق تقرير الشبكة.
وعليه، محورية دور بريطانيا في الاستراتيجية الأميركية الشاملة لا تشوبه شائبة، وطواعيتها في خدمة أهداف واشنطن «وتلقي الطعنات والإهانات نيابة عنها» من المستبعد ان تخضع لأيّ تعديل جوهري. وما أمام المؤسسة الحاكمة الأميركية إلا التعايش والتأقلم مع تداعيات الخروج، قدر استطاعتها، لا سيما انّ سوق الأسهم أول من تأثر سلباً بخسارة مذهلة بلغت نحو «3 تريليون» دولار تبخرت من التداول، ولم يتحرك البنك المركزي الأميركي الفيدرالي للتدخل.
التداعيات السياسية أشدّ وضوحاً نظراً لرغبة عدد من أعضاء دول الاتحاد، البالغة 28 دولة، إجراء استفتاءات مشابهة طمعاً في نتائج موازية للخروج أيضاً، مما ينذر بتصدّع بنية الاتحاد وانتهاء مفعول رسالته النضرة، كما تروّج الآلة الإعلامية على الدوام. ولعلّ من أبرز القضايا الخلافية بين معظم دول الاتحاد من ناحية ولندن وواشنطن من ناحية أخرى هي عضوية تركيا المدرجة بثبات دون البتّ بها وخلافها أيضاً لفرض واشنطن عليها زيادة إنفاقاتها العسكرية بمعدل 2،5 من الناتج القومي العام، في ظلّ ظروف اقتصادية تزداد سوءاً، لا سيما في دول مثل ايطاليا واسبانيا واليونان، وحتى فرنسا.
البعد الأميركي البارز في خروج بريطانيا خشية المؤسسة الحاكمة من انتعاش خطاب انسحاب أميركا من القضايا العالمية. وعبّر عن ذلك بدقة ريتشارد هاس، سالف الذكر بالقول «… الأسوأ من ذلك أنه من المحتمل جداً أن يستخدم الأميركون الداعون إلى خفض دور الولايات المتحدة في العالم خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي كدليل آخر على أنّ الحلفاء التقليديين لم يتحمّلوا نصيبهم من المسؤولية، وأنّ الولايات المتحدة التي تواجه عجزاً متزايداً واحتياجات محلية ضخمة لا ينبغي أن تعوّض هذا الفارق».
خطابات الطمأنة والتريّث التي صدرت عن البيت الأبيض ومسؤولين أميركيين آخرين، والاشادة بدور بريطانيا والمراهنة عليها، لم تجد آذاناً صاغية عند بعض أقطاب النخب السياسية.
فنّدت يومية «واشنطن بوست» نزعات الساسة تجاوز مسؤولياتهم في ما جرى باعتباره «مجرد قضية أوروبية». وقالت انّ «الولايات المتحدة تتحمّل جزءاً من هذه المسؤولية فهي التي تسبّبت في الكثير من حالة عدم الاستقرار على المستوى العالمي خلال العقدين الماضيين». ومضت بالقول انّ «للسياسة الخارجية للرئيس الأميركي باراك أوباما دوراً كبيراً في خروج بريطانيا»، إذ جاء تدخله وتوسّله لدى الناخب البريطاني، إبان زيارته لندن قبل الاستفتاء، بنتائج عكسية.
وأوضحت في ما يخصّ بريطانيا انّ «… الأزمة المالية العالمية عام 2008، دفعت لندن لاتباع سياسة تقشفية في ظلّ خشيتها من التحوّل الى يونان أخرى». وما يعزز مشاعر القلق في الأوساط المالية ترجيحها إقدام بريطانيا على «إعادة صياغة جميع اتفاقياتها التجارية، هناك كثير من الغموض حول كيفية قيامها بذلك ولا سبيل الى معرفة لغزه الآن».
هول الصدمة في داخل المؤسسة البريطانية كان أشدّ وطأة من مثيلاتها، كما كان متوقعاً. رئيس الوزراء «الناطق بلسان واشنطن»، ديفيد كاميرون، أعلن عن نيته تقديم استقالته من منصبه رافقه انتعاش الدعوة في مقاطعة سكوتلاندا لإجراء استفتاء جديد بهدف الاستقلال عن بريطانيا. حينئذ ماذا سيتبقّى من «الامبراطورية العظمى او المملكة المتحدة».
ليس من العسير استقراء تداعيات خروج بريطانيا أوروبياً، وبقائها أسيرة واشنطن. اذ من المؤكد انّ جملة قضايا استراتيجية ستتأثر بذلك، أهمّها: الاقتصاد الداخلي والدولي، نظراً لأنّ لندن أضحت العاصمة المالية للاتحاد الأوروبي بتشجيع من واشنطن بُعد السياسة الخارجية والأمن القومي والانتخابات الرئاسية المقبلة.
في بطون التاريخ القريب، وافقت الولايات المتحدة وبريطانيا سوية على «إعادة تسليح» ألمانيا عام 1955، عقب سلسلة ضغوط مشتركة استمرّت عامين من الزمن بهدف تقييد حرية حركة ألمانيا بعد الحرب العالمية.
جدير بالذكر انّ صيغة الاتحاد الأوروبي، كنموذج متطوّر عن السوق المشتركة والمجموعة الأوروبية، لم يحل دون نشوب نزاعات او حروب داخل القارة، كما يعتقد بعض المؤرّخين، بل دفعت بها الى خارج حدودها. وما إصرار واشنطن على التمسك بحلف الناتو إلا ضمان بقاء الحلف كمؤسسة تتبنّى «الحروب اللامتناهية».
العديد من الدول الأوروبية تعتبر بروز «الاتحاد الأوروبي ليس نتاج شعور اطمئنان وثقة متبادلة، بل كمشروع أميركي انكليزي لإدارة الحرب الباردة»، وعلى أوروبا ان تدفع الثمن. بعد انقضاء نحو ست عقود من الزمن، لا يزال «الاتحاد الأوروبي» مشروعاً أميركياً من بيئة الحرب الباردة الأمر الذي يفسّر عمق الرفض الأوروبي لقبول دول أوروبا الشرقية سابقاً كأعضاء في حلف الناتو.
الأمن القومي…
مستقبل ودور الاتحاد الأوروبي، في الحسابات الأميركية، شديد الحساسية من زاوية مواجهة واشنطن لموسكو. وجاء في مذكرة وضعتها مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فدريكا موغيريني، ستقدّم لقمة حلف الناتو المقبلة حول السياسة الخارجية انّ «بلوغ مرحلة دفاع ذات مصداقية عن أوروبا هو ايضاً حيوي للحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة». وأضافت «كأوروبيين ينبغي علينا التحلي بقدر أعلى من المسؤولية لصيانة أمننا».
واضافت المذكرة المعروفة بـ«الورقة البيضاء»، انّ «بقاء حلف الناتو هو للدفاع عن أعضائه معظمهم من الأوروبيين ضدّ هجمات خارجية، وينبغي على الأوروبيين تحديث معداتهم، وتكثيف جهود التدريب، والتنظيم بغية المساهمة الحاسمة لتلك الجهود الجمعية، إضافة إلى التصرف ذاتياً اينما ومتى اقتضت الضرورة لذلك».
وإمعاناً في تبعية الحلف لواشنطن، أردفت المذكرة انّ استراتيجية «دفاع أوروبية ذات مصداقية تعدّ حيوية لناحية الاستمرار بعلاقات صحية مشتركة عبر الأطلسي مع الولايات المتحدة».
من أبرز القضايا الخلافية داخل دول الاتحاد نيه الحلف إنشاء قوات عسكرية لدول الاتحاد، والتي تصدّرت جولات النقاش حول استفتاء خروج بريطانيا، نظراً لقلق الناخبين من إعداد قوات عسكرية متعدّدة الجنسيات تحت قيادة الاتحاد.
من شأن إنشاء القوات العسكرية المذكورة، إنْ نجحت في امتحانات الجدل المتزايد، ان تحدث تغييراً في التوازنات السياسية داخل الحلف، الذي لا يتعدّى كونه قوة ملحقة بالسياسة الأميركية ستكون الأكبر عدداً تحت امرة قيادة ملتزمة بواشنطن.
قلة من السياسيين ترى إنشاء القوات متعدّدة الجنسيات بمنظار آخر من شأنها إحداث توازن مع القوات الأميركية داخل حلف الناتو، والتي ستتيح للأوروبيين اتخاذ قرارات مستقلة عن كلّ من حلف الناتو والمشيئة الأميركية.
البعد الاقتصادي
استقرّت الأسواق المالية والمصرفية بعض الشيء عقب «الصدمة» الفورية لقرار بريطانيا الخروج من عباءة الاتحاد الأوروبي، لا سيما هبوط سعر الجنيه الاسترليني مقابل الدولار إذ «بلغ مستويات غير مسبوقة منذ عام 1985»، وسريان القلق داخل أوساط المستثمرين لاحتمال «مواجهة اضطرابات طويلة الأجل وتقليص الوظائف وهبوط في مستوى الأرباح»، وفق تقرير أعدّته وكالة «رويترز» للأنباء في 26 حزيران الماضي.
هناك أيضاً خشية حقيقية من اضطرار بريطانيا «إعادة صياغة جميع اتفاقياتها التجارية، وملحقاتها من قواعد تنظيمية وحقوق الملكية الفكرية، وحقوق العلامات التجارية، وقوانين البيئة» مع نحو 50 دولة، ايضاً ما يلزمها من إعادة تعريف التسعيرة الجمركية للبضائع البريطانية. في المقابل، ارتفاع سعر صرف الدولار في الأسواق الأوروبية سيؤدّي الى تراجع حجم الصادرات الأميركية بحكم ارتفاع سعرها بالنسبة للأوروبيين.
حزمة القوانين السارية والتي ينبغي إعادة تصنيفها بريطانياً تدلّ على عمق الأزمة وتعقيداتها والتي «قد تستغرق نحو سنتين»، وتداعياتها على الصادرات البريطانية ذاتها. بيد انّ بريطانيا لا تزال تتمتع بمرتبة «أفضل دولة» للتبادل التجاري بالنسبة لواشنطن، والتي ستضع أمام لندن كلّ ما تستطيع من تسهيلات وتبادلات تجارية مع دول أخرى نأى الاتحاد الأوروبي عن التعامل معها، مثل الهند بل ليس مستبعداً ان تضاعف الولايات المتحدة حجم استيرادها من بريطانيا لإعانتها على تعويض فقدانها مفاضلة السوق الأوروبية.
هبوط سعر الجنيه الاسترليني من شأنه زيادة حجم الصادرات البريطانية، وقد تنظر لندن بتفعيل سوق مستعمراتها السابقة، الكومنولث، الناطقة بالانكليزية، للاستفادة القصوى من سعر صرف عملتها المتدني.
السياسة الخارجية
آفاق السياسة الخارجية بعد خروج بريطانيا بالغة التعقيد أيضاً، نظراً لتشابك المصالح الاقتصادية بالسياسات الخارجية. بيد انّ أبرز التداعيات ينتظر البيت الأبيض في تعامله مع رئيس وزراء جديد مؤيد لمسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي، مقارنة مع محاولات الرئيس أوباما شخصياً التدخل في الوسط البريطاني لحثه التصويت على البقاء في الاتحاد، وتحذيره في الوقت عينه من خسارة مرتبة الأفضلية في التبادلات والاتفاقيات التجارية.
ليس هناك ما يدعو للقلق من استمرار متانة العلاقات الانغلو-أميركية، على الرغم من الهزة الأخيرة، وخاصة انّ الرئيس أوباما لم يتبقّ لديه الوقت الكافي لصياغة سياسة مغايرة نحو لندن، لو أراد ذلك.
واشنطن لم تُخف قلقها من تعزيز مكانة ألمانيا داخل الاتحاد الأوروبي، كما أسلفنا، وخشيتها من تصدّر برلين لقوة اقتصادية وسياسية جديدة، قيد الإنشاء، بعيداً بعض الشيء عن النفوذ الأميركي. وقد نشهد برودة جديدة في العلاقات بين المستشارة انغيلا ميركل والرئيس أوباما، لن تزول إلا بعد تبيان نتائج الانتخابات الأميركية وصياغة توجهات أميركية مستحدثة نحو أوروبا.
الاتحاد الأوروبي بصيغته الراهنة معرّض للتصدّع وخروج عدد من دوله نظراً «لارتفاع معدلات النزعات القومية والشعوبية لأسباب اقتصادية واجتماعية»، كما يراها ريتشارد هاس أبرزها في اسكتلندا وإيرلندا الشمالية. ويرى هاس انّ مهمة صعبة تنتظر القادة الأميركيين الذين «لا يرحّبون الدخول في نقاش مع قادة اسكتلندا حول إمكانية تمركز الأسلحة النووية والغواصات الأميركية على أراضيها».
كما تجدّدت حرارة دعوات أقاليم أوروبية أخرى للانفصال: كاتالونيا والباسك في اسبانيا وتشظي بلجيكا وانتعاش حركات انفصالية اخرى على امتداد القارة الأوروبية، وفي الخلفية مآسي الحروب العرقية وتفسّخ دولة يوغسلافيا الى مجموعة متناحرة من الكيانات، في عقد التسعينيات من القرن الماضي.
السياسة الأميركية
يتجدّد الجدل الأميركي الداخلي حول الظروف السابقة التي ساهمت في بروز اليمين المتشدّد ممثلاً بالسيناتور والمرشح الجمهوري السابق، باري غولدووتر، وسياسة الانكفاء التي أدّت الى خسارته الرهان أمام الرئيس ليندون جونسون، عام 1964 كمنصة انطلاق لسبر أغوار المرشح دونالد ترامب وتصريحاته بتعديل بعض أركان السياسة الأميركية والانكفاء لمشاغل الداخل.
القيادات السياسية الأميركية، التقليدية بشكل خاص، تفتقد الرؤية الصحيحة والقراءة الدقيقة لما حصل في بريطانيا، وتعتبر انّ المسؤولية تقع على عاتق الساسة البريطانيين «لسماحهم للشعب البريطاني ممارسة إرادته الحرة»، دون تدخل في النتائج.
الكاتب الأميركي والمحاضر في فرع أبو ظبي لجامعة نيويورك، جيمس تروب، عبّر عن قلق النخب الأميركية بالقول «آن الأوان للنخب النهوض ضدّ جماهير الجهلة»، معتبراً النتائج صراع بين «عاقل وغفلة غاضب».
يتقاطع الخطاب السابق مع دعوات ترامب لتقييد الهجرة لأميركا، واعتبار الكثيرين انّ مسألة تقييد الهجرة لأوروبا كانت أحد أبرز القضايا الهامة للناخب البريطاني. بيد انّ قراءة معمّقة للوقائع تدلّ على انتهاء عمر النظام السياسي المعمول به، وينبغي بلورة صيغة جديدة للحكم والمشاركة الأوسع، الأمر الذي تعجز النخب السياسية عن القيام به خشية تعرّض امتيازاتها للخطر.
غضب الناخب البريطاني، والأوروبي، من عجز النظام السياسي يجد صداه ايضاً في الداخل الأميركي. اذ يُجمع المراقبون السياسيون على انّ الجسم الأكبر من الدعم الشعبي لترامب مصدره فقدان شرائح اجتماعية متعدّدة الثقة بدور الحكومة والنظام برمّته إيجاد حلول للقضايا المستعصية، وإدراكها المتزايد بأنّ النظام السياسي يخدم مصالح النخب المالية والمصرفية التي لا تتعدّى 1 من مجموع الشعب الأميركي.
وما يثير قلق المراقبين ايضاً اتساق كثافة المشاركة الشعبية في بريطانيا مع الجمهور المؤيد لترامب ابان فترة الانتخابات التمهيدية، الذي وصل معدّل تأييده الى 13 مليون ناخب.
استطلاعات الرأي «المستقلة» تشير الى صورة مغايرة لوسائل الإعلام التقليدية، اذ انّ ترامب في شبه تعادل مع منافسته هيلاري كلينتون، وبلغ الفارق بينهما 2 ، وهي نسبة الخطأ المسموح بها حسابياً. في بداية شهر حزيران الماضي حققت كلينتون تفوّقاً على ترامب بنسبة 45 مقابل 41 . استطلاعات اليوم تشير الى سباق بينهما يرجح كلينتون بنسبة 42 مقابل 40 لصالح ترامب.
ما دلت عليه آخر الاستطلاعات يوضح عمق التأييد الذي يحظى به ترامب، على الرغم من تصريحاته المثيرة للعداء والفتنة. أدناه بعض الامثلة:
ـ 52 يؤيدون ترامب لابتداع فرص عمل، مقابل 40 لكلينتون
ـ 50 يؤيدون كلينتون في مسألة الهجرة، مقابل 43 لترامب
ـ 52 يؤيدون ترامب للردّ على داعش، مقابل 39 لكلينتون
ـ 51 يؤيدون كلينتون للتعامل مع الأزمات الدولية، مقابل 42 لترامب
ـ 46 يؤيدون كلينتون انْ قرّرت ارسال قوات عسكرية خارج أميركا، مقابل 44 يويدون ترامب
ـ 46 يؤيدون كلينتون لاتخاذ القرار المناسب ان تطلّب الأمر، مقابل 44 لترامب
ـ 54 يؤيدون كلينتون في اتخاذ القرار المناسب بشأن الأسلحة النووية، مقابل 35 لترامب
ـ 46 يؤيدون كلينتون لإنجاز المهام الرئاسية في واشنطن، مقابل 43 لترامب.
في حمأة المنافسة الانتخابية الشديدة، تتعاظم أهمية الولايات المتأرجحة والتي من شأنها حسم النتائج النهائية للانتخابات. الاستطلاعات الراهنة تشير الى تعادل المرشحيْن فيها باستثناء ولاية فلوريدا التي تتقدّم فيها كلينتون بنسبة 7 . يشار الى انّ الاستطلاع اجري قبل صدور تقرير لجنة التحقيق التابعة لمجلس النواب بحادث بنغازي الذي ذهب ضحيته السفير الأميركي، ستيفنز، وآخرين وأثار جملة أسئلة دون تقديم إجابات واضحة حول مسؤولية السيدة كلينتون بذلك.
في جانب الإنفاق المالي، تتفوّق خزينة كلينتون الانتخابية بفارق شاسع عن منافسها، 42 مليون دولار مقابل 1.3 مليون، لا سيما أنّ ترامب شحيح الإنفاق على حملته الانتخابية بينما تنفق كلينتون بسخاء خاصة في الولايات الحاسمة.
ترامب الرابح الأكبر من الهجمات الإرهابية اينما وقعت. وقد يسهم الهجوم على مطار اسطنبول في رفع منسوب التأييد الشعبي لترامب، في الوقت الراهن. اما المستقبل فمليء بالمفاجآت.