محطّات تمّوزية
أميّة درغام
حسناً، أضحت الذكرى طقساً كما المناسبات الدينية. لا ضرر في ذلك. فالدين معتقد قاموسياً. والطقوس تحمل رموزاً معبّرة عن نفسية منفّذيها، وشيء ـ وربما كثيراً من الشيء ـ من العاطفة.
لكن الطقوس المرافقة تذهلنا أحياناً إذا ما توقفنا قليلاً أو كثيراً للتأمل بها. أحياناً، تتحوّل هذه الطقوس إلى نوع من الملكية، كما الملكية الفكرية. لكن يبقى الخوف عند التكرار أن تتحوّل إلى مسلّمات لا يناقش منفّذوها، معتنقوها، محبّذوها، وحرّاس هيكلها، أسبابها وغاياتها، ويعلقون مع أرجوحة الزمن في تفاصيلها فقط.
لا بدّ من غاية… لا بدّ من سؤال نجد جواباً له.
طقس
لماذا يقف هؤلاء القوميون ليل السابع من تموز يواكبون فجر الثامن من تموز مراحل إصدار الحكم وتنفيذ الإعدام؟
لماذا راق للبعض الكثير دمج الحكاية التموزية بحكاية الفداء التموزية لتموز نفسه ـ أدونيس، ليدخلوها في الأسطورة؟
أهو توق شعب للتعبير بهذه الوسيلة عمّا يختزنه من آلاف السنين حضارةً وعلماً وتقدّماً… ورموزاً؟
هل ما نقوم به تماهياً مع تاريخنا الذي أضعناه ولم نصدّق حين قبض أنطون سعاده على مفاصل مهمّة منه، وهو يبحث عن جواب لسؤال انطلق منه ككلّ دارس باحث: «ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟».
كلّما انتزعوا شرارة من تاريخنا، نروح متشبثين بطقوسنا أكثر. كأنه دفاع ما عن كياننا، نحن المريدين.
نتوغّل في التماهي من أدونيس إلى يسوع الناصري إلى سعاده، وننتظر نبياً ينقذنا… ربما لكي نجعل منه ذكرى بعد قتله وإعدامه.
شهادة
لم أسمع يوماً من لسان قوميّ يقول الشهيد. مع أنه شهيد.
ألم تتآمر عليه الدول؟ ألم يرتكب من ارتكب الفعل بمحاكمة صورية من دون محامٍ يدرس الملف ويرافع؟
ألم يُخِف علمه وأبحاثه فرائص العدو الذي لا يزال يتربص بنا، مغتالاً المفكّرين والأدباء والقادة المتنورين الواعين خطورة هذا العدو في قلبه وتزييفه للتاريخ وفي اختراع دولة في بلادنا؟
لم أسمع يوماً عبارة الشهيد. أسمع «الزعيم»، أسمع «المفكّر»، «المصلح»، «عالم الاجتماع»… ولكن حتى في ذكراه لا أسمع عبارة الشهيد. لماذا؟
مرتكزات للانطلاق
في رحلة البحث عن المعنى، بعض المحطّات. ليست محطّات للركون والتوقف. هي محطات للانطلاق.
من دراساته في علم الاجتماع، كتاب «نشوء الأمم»، قرأت في الفصل الأخير:
«الأمة متّحد اجتماعي أو مجتمع طبيعي من الناس قبل كلّ شيء آخر. وكل ما مرّ آنفاً من العناصر هي أوصاف للأمة ناشئة من مجرى حياتها وتاريخها وهي قابلة للتطوّر والتكيّف فقد تتعاقب الأديان ويتحوّل الأدب وتتبدل العادات وتتعدل التقاليد وترتقي الثقافة في أمة من الأمم من غير أن يشوب سنّة نشوء الأمم شائبة ومن غير أن ينتفي وجود الأمة، إلى أن تزول الأمم والقوميات من الوجود ويصبح العالم كلّه متحداً اجتماعياً واحداً لا تفصل بينه فواصل أرضية أو اجتماعية أو اقتصادية».
أدونيس أسطورة. أي أدب خيالي تشي رموزه بمفاهيم معيّنة، بوسعنا دراستها.
سعاده، مفكّر ومؤسّس حزب على أساس النظرية العلمية في علم الاجتماع التي توصّل إليها في أبحاثه، من أجل النهوض بالأمة التي وجدها تنهض من مأساة لتقع تحت احتلال لتنازع لتنتفض ومن ثم تتقسّم إلى أجزاء وأجزاء.
دعونا لا نحوّل سعاده إلى أسطورة أدبية، أو دينية بطقوس تشبه الطقوس السماوية التي تقام على الأرض.
دعونا لا نعدمه بعد أن اغتاله الأعداء… أعداء الخارج وأعداء الداخل.
كما في السماء
ينظرون إلينا كما لو أننا خارجون من التاريخ، حين نتحدث عن تاريخنا الحديث. من المحطات، العام 1920، وإعلان لبنان الكبير بعد اتفاقية «سايكس ـ بيكو»، والتي تسجّل محطة من التقسيم.
لمجرد أن نسرد الواقعة، يقولون: «أين أنتم؟ في أيّ زمن تعيشون؟».
فالقبول بأمر وقع، سواء كان إيجابياً أو سلبياً، يعني لهم أننا ـ أي القوميين ـ نعيش في الماضي ولا نستطيع الخروج منه والتأقلم.
هذه الورقة من كتاب التاريخ لا تزال بيضاء. لم يدركها الاصفرار بعد. وعلى رغم ذلك، هذه التهمة التي تلبّس لنا، جاهزة دوماً حين نفتح فاهنا بالتاريخ الحديث، فما بالكم بالتاريخ القديم؟
الأخطر من إعدام الشخص وإن كان زعيماً بمفهوم الزعامة الذي وضعه سعاده، إعدام الفكر.