قدوة الأحرار

سمير حماد

ما بين مولد سعاده مطلع آذار 1904، وجريمة إعدامه فجر 8 تموز 1949، كانت سوريا تتحرّك على الجمر. من عثمانية تجهّز للرحيل، واستعمر فرنسيّ ـ إنكليزيّ ينصّب نفسه وصيّاً، ومعاهدة مجرمة «سايكس بيكو» ما نزال نشهد ذيول خرابها إلى الآن، ووعد إنكليزي مشؤوم بإقامة وطن لليهود في فلسطين، تمخّض عن دولة صهيونية طردت الشعب الفلسطيني وأحلّت مكانه يهوداً أُحضِروا من أربع جهات الأرض. ترافق هذا كلّه، مع تبعية كاملة لدولتَي الاستعمار فرنسا وبريطانيا. كلّ هذا عاشه أنطون سعاده، المواطن الشغوف بسوريا العظيمة، دارس ومعلّم الفلسفة واللغات، وكاتب الرواية والنقد الأدبي، والسياسي الأمهر. و في هذه الحقبة المتأججة من التاريخ السوري المعاصر، وضع إصبعه على الجرح وأحسّ بالخطر الذي تتعرّض له سوريا. فانتفض فاضحاً خطر الصهيونية و«سايكس بيكو»، معتبراً أنّ الصراع بيننا وبين اليهود «لا يمكن أن يكون فقط في فلسطين بل في كلّ مكان حيث يوجد يهود. إن مصيبتنا بيهودنا الداخليين أعظم من بلائنا باليهود الأجانب».

وقد رأى سعاده أن خطر اليهود «لا ينحصر في فلسطين، إنه خطر على الشعب السوري كلّه، ولن يكتفي اليهود بالاستيلاء على فلسطين، ففلسطين لا تكفي لإسكان ملايين اليهود».

وقد اعتبر الزعيم سعاده أن فلسطين «هي جزء من الأمة السورية التي تحمل رسالة تنصّ على إنهاض العالم العربي أجمع».

اعتقلت سلطات الاستعمار سعاده أكثر من مرّة لتشكيله خطراً على وجودها، بتهمة تشكيل جمعية سرّية والإخلال بالأمن العام، والإضرار بأمن الدولة. حيث لأكمل كتابه الأشهر «نشوء الأمم» في السجن. أما جريدة «النهضة» التي أنشاها عام 1937 فقد استقطبت المثقفين والنخب الشابة وشكلت خطراً على عملاء الاستعمار والوصاية، فأعيد اعتقاله من جديد، مكتسباً هذه المرّة شرف معاداة الفئات والأحزاب الانعزالية له ولحزبه.

كان سعادع يباهي ويفاخر بانتمائه الحضاري إلى سوريا العظيمة في مواجهة التنين الصهيوني الاوروبي «نحن أمة كم من تنّين قد قتلت في الماضي، ولن يعجزها أن تقتل هذا التنين الجديد… نحن أمة قوية عظيمة بمواهبها غنية بمواردها المادية وأنشطتها الروحية…».

وما تزال عبارته الشهيرة ترنّ في أذن كلّ سوري شريف «إن لم تكونوا أنتم أحراراً من أمة حرّة، فحرّيات الأمم عار عليكم». كما أشاد بالتضحيات والاستشهاد في سبيل الأمة السورية وبالشهداء العظماء قائلاً: «إن أزكى الشهادات شهادة الدم. شهداؤنا هم طلائع انتصاراتنا الكبرى. قد تسقط أجسادنا أما نفوسنا فقد فرضت حقيقتها على هذا الوجود ولن تزول. إننا نحبّ الحياة لأننا نحبّ الحرية. و نحبّ الموت متى كان الموت طريقاً إلى الحياة».

لقد أشار الزعيم سعاده إلى خطورة الاقتتال الديني والتعصب الطائفي، والضرر الذي يلحقه بالأمة والخطورة التي يتمخض عنها فقال: «إن اقتتالنا على السماء أفقدنا الارض. كيف يمكننا أن نربح الأرض ونحن نقتتل على السماء. إننا حين نربح الأرض نربح الجنة».

عندما عاد سعاده إلى بيروت عام 1947 من جولته على فروع الحزب في الخارج، وجد حشداً هائلاً في استقباله. فأصدرت الحكومة قراراً باعتقاله في أعقاب هذا الاستقبال الكبير ما لبثت أن ألغته خوفاً من العواقب. لكن المواجهات العلنية بدأت بين الحزب وأعدائه الداخليين، وصدرت قرارات بحظر الحزب ومنع الاجتماعا ت العلنية. أخيراً، وبعد استقبال حسني الزعيم له في دمشق، سلّمه للسلطات اللبنانية. وفق صفقة سياسية مخجلة . في 7 تموز عام 1949، سارعت الدولة اللبنانية إلى محاكمته محاكمة صوَرية، وأعدمته فجر 8 تموز 1949.

رحم الله الزعيم أنطون سعاده، الشخصية التي قلّ مثيلها في تاريخنا السوري المعاصر. استشهد في مثل هذا اليوم وترك إرثاً نضالياً عظيماً. كان قدوة للمناضلين الشجعان والمعلّمين الأفذاذ الأحرار المستعدّين للشهادة والتضحية حين يكون الاستشهاد طريقاً للحياة الحرّة الكريمة. أليس هو من قال: «إننا نحبّ الحياة لأننا نحبّ الحرّية. ونحبّ الموت متى كان الموت طريقاً إلى الحياة»؟!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى