قراءة في «قصيدة الانتفاضة» للقاسم
كتب سليم الحسني: في «قصيدة الانتفاضة» للشاعر سميح القاسم نقرأ خطاباً حماسياً ساخناً، يحاول الشاعر أن يستوعب فيه حدث الانتفاضة، من خلال إخضاعه حالة التصادم بين الطرفين. وقد توفر القاسم في خطابه على حس ثوري متحد، حرص على أن يكون بدرجة الانتفاضة نفسها، من حيث قوة الموقف وسرعة الحركة وسعة الآثار.
عندما نقرأ شعر القاسم في مراحله التاريخية المختلفة، وصولا الى «قصيدة الانتفاضة» نكتشف أنه كان يسعى إلى تقديم أطروحة شعرية عن الثورة. ولم يؤسس هذه الأطروحة بشكل منفرد وبنظرة خاصة منطلقة من رغبة في الخروج على واقعه المرير، أو على أمنية داخلية متعلقة بحالة النصر، انما استند في ذلك على رؤية قومية تميز بها وتحرك من قاعدتها وعلى ضوئها في التعبير عن أطروحته الثورية التي أخذت الكثير من تفكيره واستقراءاته، وهذا ما يتضح من خلال ثبات المضامين الشعرية التي كتبها في فترات زمنية مختلفة، إذ نجد بقاء الفكرة والموقف على ما هما عليه، من دون تغير في الأسس، رغم تبدل الصورة التي تستوعب كلا منهما أو كليهما. ما يشير الى عمق التصور الذي كوّنه الشاعر حول مسيرته، والى إيمانه بخط التحرك الذي سلكه منذ البداية.
في بعض الفترات كانت ثمة مواقف تبدو مظلمة، حيث يسيطر إحساس الانكسار على الشاعر بدرجة ملحوظة، عندما يتحدث عن واقعه، ويتنقل عبر نقاطه على مشاهد المأساة والحزن والألم. لكن اعترافاته بالهزيمة لا تشكل انهياراً ذاتياً يجعله يسقط في حالة اليأس التام، فتتلاشى طموحاته وأحلامه وتموت في داخله أطروحته راسمة طريق الغد.
إن ذلك لم يحدث بهذه الصورة المخيفة، وما ظهر من إنتاج الشاعر في هذا الخصوص، إنما مشاعر مشتركة بين جميع أبناء البلاد العربية والإسلامية، تولدت عبر حقب تاريخية متلاصقة، نتيجة مواقف الهزيمة التي صنعها الحكام. ولم يعد في إمكان أي إنسان على هذه الخريطة المترامية، إلا أن يبوح بهذه المشاعر التي تزدحم في قلبه ويعجز عن حبسها.
لقد كان القاسم يصف الواقع العربي، يتحدث عن التردي الذي أحاط به كإنسان ينتمي إلى فلسطين وإلى غير فلسطين. وكان في حديثه عن الألم يحاول أن يسحب بطريقة سرية مسمار الأمان ليفجر العبوة.
في هذا الاتجاه الذي يتناول فيه مظاهر الهزيمة والضعف في الواقع العربي، يقدم مظهرين متقابلين لحالة القضية الفلسطينية. كأنه يريد أن يعلن مظلومية فلسطين على أكبر مساحة مرئية، ليثير ما يستطيع إثارته من مشاعر التعاطف، ومن ثم التفاعل معها، حتى لا تضيع في النسيان، ولتظل شاخصة أمام الأعين وحيّة في الضمائر.
في المشهد الأول، يقارن بين اليهود وشعب فلسطين، بين التاريخ والحاضر. إذ يتحدث عن التيه اليهودي الذي استقر في ما بعد في فلسطين، بينما تشرد شعبها في الأرض وصار هو الغريب. يقول في قصيدة «غرباء»:
سنوات التيهِ في سيناء كانت أربعين
ثم عادَ الآخرون
ورحلنا.. يوم عاد الآخرون
فالى أين؟.. وحتامَ سنبقى تائهين
وسنبقى غرباء؟
وفي قصيدة «بوابة الدموع» يقدم المشهد الثاني الذي تتحرك مفرداته داخل فلسطين على نحو رئيسي:
أحبابنا.. خلف الحدود
ينتظرون حبةً من قمحهم
وقطرةً من زيتهم.. ويسألون
كيف حال بيتنا التريك
وكيف وجه الأرض.. هل يعرفنا اذا نعود؟!
يا ويلنا..
امَ شعب لاجىء شريد
يا ويلنا.. من عيشةِ العبيد
فهل نعود؟ هل نعود؟
في المشهدين ينتهي الى تساؤلات حائرة، خالية من الجواب. تساؤلات حول المكان والزمان والمصير، وهي أقسى مفردات الضياع والغربة، وأشدها ألماً، وأكثرها ضغطاً على الأعصاب.
عندما نحدق إلى ما رسمه الشاعر لا نملك إلا أن نسلم ـ للوهلة الأولى على الأقل ـ بأن المأساة أخذت كل قلبه ومشاعره، فسقط حائراً أو يائساً. لم يكتشف وجهة الغربة ومحطاتها القادمة، ولم يقدّر مدتها الزمنية، ولا يستطيع ان يتكهن بالمصير. فوقف إزاء مجاهيل مظلمة.
في الإمكان أن نقرر بصورة نهائية سقوط القاسم ضحيةً لليأس، معتمدين على الوثيقتين اللتين كتبهما بنفسه. لكن سعة المشروع الثوري الذي بلوره بتعب ودقة خلال فترة زمنية طويلة من الإنتاج الشعري، تجعلنا نتريّث ونبحث في الرؤية الحقيقية التي اعتمدها في رسم اشكاله اليائسة.
لا لا نتردد في القول إنه كان ضرورياً أن يلجأ الشاعر إلى هذا الأسلوب، أن يسلط أضواءه على جوانب المأساة الفلسطينية، أن يظهرها للعيان بكل ما تعينه قواه. فما حدث لفلسطين ليس أمراً عادياً، ولأن فلسطين تحتاج إلى تعامل حسي مرهف مع قضيتها، وإلى عين جوّالة في مناطق الألم، وأذن سماعة لكل آهة حزن، فهي تحتاج إلى هذا وذاك لتبقى حية في الوجدان الإنساني، قضية غير قابلة للتمييع، خاصة أنها مستهدفة عربياً ودولياً ومحوطة بقدر كبير من محاولات الاستيعاب والإنهاء بالطرائق المستحبة رسمياً، المحرمة شعبياً.
لا بد لأي شاعر يكتب عن فلسطين من أن يحترم هذا القانون، أن يحترم الألم الفلسطيني، ليثبت شهادته بان فلسطين ما زالت كما هي، مأساة متحركة وجرحاً ندياً نازفاً. وقد فعل ذلك جميع الذين كتبوا عن فلسطين. لكن الاختلاف حصل في النسبة، فمنهم من وقف عند الجوانب الحزينة حتى صارت أبرز ملامح شعره.. ومنهم من مرّ سريعاً فترك خلفه لمسة.
لسنا في صدد تحديد المواقع، لنضع القاسم مكانياً على هذا السلم الطويل، لكننا نرى انه التزم بالقانون الأسبق، وثبّت في الذاكرة حالة فلسطين وشعبها في أوقات الهزيمة المرة وفي سنوات المحنة الخطيرة التي تعرضت لها ولا تزال.
كان ذلك منذ نحو ربع قرن، ثم عاد إليه لشاعر في فترات لاحقة ليركّز في الذاكرة ما قد تزيله السنوات.
يتألف المشروع الشعري في الثورة لسميح القاسم من ثلاثة أجزاء متميزة. يشمل الأول الدائرة الشخصية وإيمانها العميق بقيم وثوابت يلتزم بها الشاعر، ويتحرك الجزء الثاني على العلاقة الترابطية الوثيقة بين الماضي والحاضر، إذ يؤكد الشاعر القيمة التراثية الكبيرة للتاريخ ودوره الدافع للحوادث ضمن عملية صنع الحاضر، وفق منظار قومي صرف. ويشغل هذا الجزء المساحة الأكبر من المشروع. أما الجزء الثالث فيتركز حول حتمية الانتصار مستقبلاً، وجاءت الانتفاضة لتحتل موقع المستقبل الذي انتظره وبشّر به في الجزءين السابقين.
في البداية، يثبت الشاعر قناعاته الخاصة وإيمانه بالقيم المعنوية الموضوعية التي يتعامل معها بنفس حتمي، من دون أن يضع احتمالاً للمراجعة أو إعادة النظر، بل يمنحها صفة القانون، ويفسر على ضوئها الأسباب ويقدم نتائج يراها منطقية للمواقف والقضايا. نراه يتعامل مع الحياة على انها تتحدد على أساس الموقف النضالي. يعتبر ان النضال هو المعيار الكبير لاستمراريتها، فمن دونه تتلاشى الحياة وتنتهي، إذ تفقد صفتها المتحركة وتتحوّل الى مجرد إشارات بليدة خالية المعنى.
في قصيدة «لأننا» المكونة من رباعية واحدة، يفسر الشاعر إحساسه بالموت نتيجة تفتت عناصر الحياة وإبرازها عنصر النضال:
أحسُ أننا نموت
لأننا.. لا نتقن النضال
لأننا نعيد دون كيشوت
لأننا.. لهفي على الرجال.
ينظر الى حياته على أنها ماضية في التلاشي لضعف الممارسة النضالية، وبروز عناصر سلبية أخرى تتعارض مع حقيقة النضال وروحيته العالية.
يملك الموقف قيمة حيوية كبيرة، بحيث يشمل الحياة على اتساعها وتعدد أدوارها، بل يتسع ليتجاوز دائرة الحياة نفسها، باعتباره يمثل قضية مستقلة لا تخضع لقوانين الزمن والحياة.
في قصيدة «الذي قتل في المنفى كتب لي» يتضح من العنوان أن الموت لم ينه دور المقتول، بل يستمر مع الآخرين الذين يعرفهم. ما يعني بقاء عناصر الحياة في داخله، وأن الموت الذي فرضه الأعداء على السجين كان شكلياً، فمن الاستلاب الروحي لشخصية المناضل.
في القصيدة يتحدث الشاعر عن قيمة التحدي فيجعلها تمثل قيمة حية غير قابلة للحذف، رغم المحاولات المعادية. تتزايد أساليب التعذيب حتى يموت السجين، لكنه يظل محافظاً على موقف التحدي المتمثل في «جبينه المرفوع».
قتلوني ذات يوم
يا أحبائي.. لكن..
ظل مرفوعاً الى الغربِ.. جبيني.
إن الموقف عنده أهم من الحياة، لأنه سيبقى محرّكاً لها، صانعاً مواقف أخرى في الطريق النضالي. فلقد توقف التعذيب وانتهت ممارسات الأعداء لحظة موت السجين جسدياً.. لكن موقفه ظل مستمراً شاخصاً في الحياة.
يقدم الشاعر في قصيدة «رسالة من المعتقل» قناعات إضافية تسير في الخط نفسه. فاذا كان اعتبر بدءاً أن الموقف النضالي أهم من الحياة، فانه يعزز هنا الرؤية السابقة، إذ يعتبر ان الاجواء النضالية هي الوسط الذي تولد فيه الحياة.
وبذلك فإن السجن الذي يشكل المحطة الطبيعية للمناضلين يتحوّل الى ساحة للولادة، وليس مثلما اعتادت النظرة العامة أن ترى فيه منطقة الموت والنهاية التعيسة للداخلين إليه. بل إن السجن بحسب تصور الشاعر سيواجه التهديد امام الانبعاث الثوري الذي يولد في داخله.
لكني أومن يا أماه
أومن.. أن روعة الحياة
تولد في معتقلي
أومن أن زائري الأخير.. لن يكون
خفاش ليل.. مدلجاً. بلا عيون
لا بدّ.. أن يزورني النهار
وينحني السجان في انبهار
ويرتمي.. ويرتمي معتقلي
مهدماً.. لهيبة النهار!!
إن اطمئنان الشاعر لحتمية الانتصار لا يعني تجمده في حدود واقعه وأوضاعه وحالته الآنية. لا يفهم الحتمية على أنها حركة تنطلق بدوافع خفية خارجة عن دائرة الفعل النضالي، إنما ينظر إليها على أنها مترابطة سببياً مع هذا الفعل، فهو سببها وهي نتيجته. لا يعيش حالة اضطراب أو فوضى داخلية، فالرؤية واضحة لعينيه.
ونفسي ـ رغم دهر البين
رغم الريح والمنفى
ورغم مرارة التشرّد
تدرك.. تدرك الدربا!!.