مهرجانات صور تعود إلى درّة الجنوب بعد غياب قسريّ
عادت مهرجانات صور بعد غياب خمس سنوات إلى التألق من جديد، وعادت تصدح معها أعمدة الملعب الروماني التي تحاكي الحضارات كلّها، فاختارت لليلتها الأولى العمل المسرحي الراقص «الملكة خاتون»، قدّمته الفرقة السورية «إنانا للرقص المسرحي».
حضر حفل الافتتاح إلى جانب رئيسة لجنة مهرجانات صور رندة عاصي برّي، وزير الثقافة روني عريجي ممثّلاً رئيس الحكومة تمام سلام، سفير كوريا الجنوبية في لبنان ليو ميل، وسفيرا البرازيل ورومانيا، وفدٌ من الوحدة الإيطالية العاملة في قوات الطوارئ الدولية «يونيفيل»، رئيس اتحاد بلديات صور عبد المحسن الحسيني، رئيس بلدية صور المهندس حسن دبوق، وعدد من أعضاء السلك الدبلوماسي وفاعليات سياسية وبلدية واجتماعية واختيارية وحشد من الحضور غصّ به الملعب الروماني.
الليلة الأولى
بعد النشيد الوطني اللبناني، اعتلى أعضاء فرقة «إنانا» المسرح المستحدث في الملعب الروماني، وقدّموا استعراضاً راقصاً من قصة الطفلة «خاتون»، ابنة الملك صلاح، التي تولّت الحكم لعدم إنجاب والدها الأولاد في حلب، وطوّرتها ثقافياً وعمرانياً ودافعت عنها، فكانت القصة خير تعبير لرقص استعراضي مأخوذ من التاريخ ويحاكي الحاضر أيضاً.
يبدأ العمل من قلعة حلب مكان الأحداث والشاهد عليها، حيث ولدت هناك ابنة الملك العادل، فامتلأ قلب والدها بالفرح وأسماها «ضيفة خاتون»، لم تكتمل فرحة الملك العادل، فقد ملأ قلبه الحزن على فراق حلب، على إثر مرسوم من السلطان يقضي بنقله إلى مصر، وتعيين الظاهر غازي حاكماً على حلب. تمرّ الأيام وتكبر «ضيفة خاتون» وتشعّ كالنجمة علماً وجمالاً. فيقرّر الملك الظاهر غازي طلب يدها للزواج، ويرسل قافلة محملة بالهدايا إلى عمه الملك العادل في مصر لطلب يد ابنته. تقام الأفراح احتفالاً بعرسهما، وتزدهر حلب بعودة ابنتها «خاتون»، ويعمّ الفرح أرجاء المدينة.
برّي
العرض الذي استمر حوالى ساعة ونصف الساعة، أدهش الحضور لروعة اللوحات الاستعراضية التي قدّمتها الفرقة. وقالت برّي في تصريحات صحافية إن عودة مهرجانات صور، عودة طبيعية بعدما سمحت الظروف بذلك، خصوصاً عندما تكون إرادة الناس متفهمة ومساعِدة. مؤكدةً أن القوى الأمنية أثبتت أنها قادرة على حماية كافة المواقع في لبنان، فلبنان بلد قادر على العيش والحياة ولا يمكن لأحد أن يقدّم رسالتنا، هذه الرسالة المميزة والخطيرة جداً، حيث لا بلدَ في العالم يشبه لبنان. لذلك، نشعر بالمسؤولية ونطلب من الناس أن يساهموا في إنجاح هذه المهرجانات ويشجّعوها.
وأكّدت برّي أن هذا المهرجان هو تحدّ، وقالت: أيّ شعب لا يتحمّل مسؤلياته لن تكون له حياة. دائماً، وأيّاً تكن الظروف صعبة وخطيرة، هناك وقت يجب أن نفتح نافذة، ويجب أن نمر ولو من بقعة ضوء صغيرة، وهذه البقعة تتجسد من خلال هذا الجوّ وهذا الحبّ الذي نلتقي عليه ويلتقي اللبنانيون معه.
وأشارت إلى أنه لا بدّ من أن نؤكّد للعالم كلّه أن رسالتنا رسالة حبّ ورسالة سلام وأنّ هذا الجنوب كما كان دائماً، سيبقى شامخاً ومرفوع الرأس.
وقالت: ثمّة أسباب أمنية مختلفة مرّ بها الوطن من وقت إلى آخر، وكان لا بدّ من الحرص والتحفّظ من أجل سلامة الناس والمواطنين. نحن اليوم نعود بزخم، وذلك بفضل الناس وبفضل المغتربين والسياح الذين يطالبون دائماً بعودة هذا المهرجان على رغم الظروف الاقتصادية الصعبة، وهي على لجنة المهرجانات ليست بالسهلة. فكان لا بدّ أن نجد الوسائل والطرق لنعيد الحياة إلى هذا المهرجان. آملة أن يكون مشهداً واضحاً أمام الرأي العام اللبناني لأن المهرجانات هي للناس ومن أجل الناس. مهرجانات صور والمهرجانات الوطنية الخمس الخاصة تعدّ من المهرجانات الثقافية والفنية لا مهرجانات فرح فقط، بل هي مهرجانات موجّهة نحو الثقافة والتطوّر، وهي رسالة إلى العالم كما هي إلى الداخل، ورسالة ضخمة إلى المغتربين ليعودوا دائماً من خلال هذا الفرح ومن خلال هذا الإرث الإنساني. لكن الرسالة الأهمّ هي التي نطلقها من صور، من هذا الموقع التاريخي الذي لا يزال قائماً بفعل أهل المنطقة وأهل المدينة سالم المعالم، مؤكدة أن جمعية «آثار جل» حافظت على هذه المعالم وطوّرتها لكي تصبح جاهزة لتستقبل المهرجانات وتستقطب كل شرائح المجتمع حتى الباحثين في مجالات الآثار وفي مجالات الفنون.
وتابعت برّي: إنها المرّة الأولى التي سيتم فيها نقل وقائع هذا المهرجان مباشرة على الهواء عبر الإنترنت للمغتربين، لأننا نعلم أنّ هناك صعوبة كبيرة في عودة بعضهم لقضاء فرصة الصيف، إذ كنّا نرى مئات الألوف يعودون بعد انتهاء المدارس لتمتلئ ساحات القرى وساحات المدن بهؤلاء، إضافة إلى السيّاح، خصوصاً العرب من كل المناطق، فنحن نفتقد في السنوات الأخيرة وهذه السنة بالذات إلى الكثيرين، ولهذا أحببنا أن يحاكي المهرجان أهلنا في الاغتراب.
وفي ردّها على سؤال عن بدايات المهرجان، قالت: كانت الرسالة الأساسية والرئيسة لانطلاقة مهرجان صور عام 1996، حين أقيم المهرجان الأول أواخر حزيران، أي بعد شهرين من مجزرة «عناقيد الغضب»، كان المهرجان حينذاك رسالة واضحة جداً أضاءت على الكثير من العناوين. وهو المهرجان الوحيد الذي قدّمت فيه كلمة. كل المهرجانات تبدأ بالنشيد الوطني ولكن المهرجان الوحيد الذي تكلّمت فيه هو المهرجان الأول، لأنني أردت أن أوجّه رسالة واضحة قلت فيها: مهما حاولت «إسرائيل» أن تقتل الحياة وتسرق الهواء، لكنها لن تستطيع. فهذا المهرجان هو فعل إيمان وفعل مقاومة كما أيّ نوع من المقاومة الأخرى، فلن تستطيعوا أن تهزمونا وأن تقتلوا فينا الحياة، وسنخلق من كلّ هذا الحزن كلّ الفرح.
وأضافت: للجنوب بُعدٌ مختلف، ودائماً للجنوب رسالة مختلفة. وهو أصلاً رسالة إلى العالم كلّه. ولبنان بحدّ ذاته رسالة مميزة للعالم كلّه.
وقالت: نحن نمشي على أرض مقدّسة أنّى ذهبت في لبنان. لذلك نحن نحاول أن نكون على قدر هذه المسؤولية، ونطالب دائماً، ونود أن يشاركنا جميع اللبنانيين في تكملة هذه الرسالة وتقويتها لنحافظ على أرضنا وعلى كل هذه الحياة وعلى كلّ هذا الإرث الإنساني الذي دفع ثمنه الجنوبيون والشعب اللبناني كله ثمناً غالياً جدّاً، وما زلنا ندفع أثماناً اقتصادية ومعنوية على المستويات كافة.
وختمت برّي: من هذا الفكر ومن هذا البُعد، نحْيي دائماً بهذا المهرجان بكلّ حبّ لنقدّم رسالة سلام كبيرة للّبنانيين ولأشقائنا.
عريجي
بدوره، أكّد وزير الثقافة روني عريجي أنّ حضوره المهرجانات التي تقام في موقع صور الأثري الذي ترعاه الوزارة أمر طبيعيّ، وأنّ الوزارة تدعم كلّ المهرجانات الفنية الراقية وتشجّعها. شاكراً ريسة لجنة مهرجانات صور رندة برّي على هذا الجهد التي تبذله في سبيل تنشيط الثقافة والفن، ومعتبراً أنّ اللبنانيين متمسكين بالحياة والثقافة والفن على رغم التحذيرات الأمنية. موجّهاً تحية إكبار إلى أهالي الجنوب الذي يجسّد المقاومة ضدّ العدو الصهيوني، وحيّا الشهداء الذين لولاهم لما كان لبنان موجوداً.
دبوق
رئيس بلدية صور الهندس حسن دبوق أكد أن مدينة صور اشتاقت إلى عودة المهرجانات، حيث كان سابقاً مجرّد التفكير بإقامة المهرجانات ضرب من الخيال وحلم صعب تحقيقه. فبوجود السيدة برّي وإصرارها على إقامة المهرجانات تحقق الحلم، وهي التي رفضت فكرة البحث في تأجيلها، لذلك دعا دبوق المواطنين إلى حضور باقي الليالي التي ستشهد سهرات راقية وممتعة.
بدوي
المدير الفني للمهرجانات الفنان القدير نعمة بدوي، اعتبر أن ليالي المهرجان قليلة إنما مكثّفة، وهي تتنوّع بين ليلة عالمية وليلة عربية وليلة لبنانية وليلة للشعر العربي تخصّص مجاناً للحضور. مؤكداً أن عودة المهرجانات أكبر ردّ في وجه كافة الحركات التكفيرية، وأكبر دليل وجود المهرجانات في موقع أثري، وهي رسالة واضحة ضدّ التدمير الممنهج للمواقع الأثرية في العالمين العربي والإسلامي.
الليلة الثانية
وفي الليلة الثانية، بكى فارس الغناء العربي عاصي الحلّاني وبكت معه أعمدة الملعب الروماني في صور، فألهب قلوب الجماهير الذين تجاوز عددهم 2500 مُشاهد، غصّت بهم المدرّجات التي استُحدثت للمناسبة، وأتوا من مختلف المناطق اللبنانية متحدّين التهديدات، فكانت ليلة من العمر للجنوب وللبنان ولفارس الغناء العربي عاصي الحلاني، الذي يكفيه فخراً «أنه لبنانيّ»، الأغنية التي بدأ بها المهرجان، إلى «قومي ارقصيلي بعد» التي تفاعل معها الحضور، فتمايلوا ورقصوا وغنّوا معه. ومرّ على جانب بيت الحبيبة الذي دق بابها الخالي إلا من الذكريات، ولم يبخل على جمهوره فدغدغ أحاسيسهم عندما سأل «عمرك شفت شي باب عم يحكي»، فأحسوا بصوته الشجيّ الموجوع لفراق الأحبة، فأبدع ولكأنه يؤدّيها للمرّة الأولى وتسمعها منه، هذا هو الفنان الشامل الذي استحق بجدارة لقب فارس الغناء العربي، الفارس الذي لا ينكسر أبداً، يكسره غياب من أحبّ فيشاركهم في فرحنا. وبعد الوقفة الوجدانية والدموع التي ذرفها وشاركه فيها الحضور، أبدع عاصي وفرقته الموسيقية وفرقة «مجد الفولكورية»، فتمايلت أعمدة صور وتلاقت مع أعمدة بعلبك التي تفخر أن منها جاء الفارس إلى أرض المقاومة أرض الجنوب التي حيّاها عاصي بأغنية الكبير الراحل وديع الصافي «الله معك يا بيت صامد بالحنوب». وحيّا الرئيس نبيه برّي، متمنّياً للجنوب الأزدهار والفرح، ومعبّراً عن سعادته لأنه موجود على أرض الجنوب، معتبراً أنها ليلة من العمر أضافها إلى تاريخه الفني، على رغم أنها ليست المرّة الأولى التي يعتلي فيها مسرح الملعب الروماني في صور، شاكراً السيدة رنده برّي رئيسة المهرجان دعوته للمشاركة في إدخال الفرح إلى الجنوب.
واشتعلت بعدئذ أدراج صور بالدبكة، ولم يتمالك أحد نفسه من الرقص والغناء على أغاني «الهوّارة» و«الدلعونا»، إنه عاصي، إنه البقاع يعانق الجنوب، إنه الإبداع، إنها مهرجانات صور التي عادت بعد غياب خمس سنوات عجاف ستليها سنوات لا تعدّ من الفرح والتحدّي والحياة.
صور التي بقي أهلها على شاطئ البحر حتى الثالثة فجراً، يتحدّثون عن هذه الليلة، نوّهوا بالتنظيم والتدابير التي تتّخذ للمرّة الأولى، شاكرين القوى الأمنية والبلدية على السهر والمتابعة لتأمين الراحة والأمان للحضور. أمّا الذين أتوا من المناطق اللبنانية كافة، وهم قافلون للعودة إلى بيوتهم، فلم يحسّوا بأنهم أتوا خارج مناطقهم، متمنّين لو أن هذه الليلة التي استمرت لساعتين كاملتين… لا تنتهي.
تجدر الإشارة إلى أن الليلة الثالثة ـ 14 تموز ـ سيكون محبّو مهرجانات صور على موعد مع أمسية شعرية يحْييها الشعراء: غسان مطر، شوقي بزيع، بلقيس حسن، عبد الله العريمي، علاء الجانب، ويقدمها الشاعر مهدي منصور. أما الليلة الرابعة ـ 15 تموز ـ فهم على موعد مع فرقة المسرح الروسي الأكاديمي للرقص «غزيل»، والختام في 16 تمّوز مع الموسيقار ملحم بركات.
تصوير: محمد أبو سالم ـ مصطفى الحمود