الشعر يؤلّف تذكارات جديدة للحرب ليشي بأن «الحياة هادئة في الفيترين»!
النمسا ـ طلال مرتضى
أسّ الحكاية يوسف…
حين اتّحد عليه الأخوة بقي وحيداً، أسّ الحكاية، كسر قلم الرصاص المنفرد لأنه صار خارج الحزمة، أسّ الحكاية. ذاك الوطن الذي فرش روحه للعابرين. وعندما استفاق من حلمه وجد ظهره مكشوفاً للطعنات. أسّ الحكاية يوسف الذي لم يستسلم لوحدته، وقلم الرصاص المنفرد تذكر أن ثمة ممحاة عالقة في نصفه الحيّ، قادرة على مسح الجرح. لكن الوطن الذي استفاق لتوّه على ظلم أخوة يوسف، صار رماداً…
يوسف وحده القابض على الوجع. كتب بنصف قلم رصاص:
حينَ تغدو هذهِ البلادُ رماداً
سنعبّئُ هذا الرمادَ في زجاجاتٍ
نحمِلُها معَنا في حقائبِ الكتفِ ونغادرُ
هنادي زرقة، في منجزها الجديد «الحياة هادئة في الفيترين» الصادر عن «دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع» بيروت 2016، لم يكن لديها وقت للمواربة أو المواراة، بل دخلت من مدهال وجعها/ وجعنا، لتشي لي/ لكم بأصالة الحبر الذي عبّرت من خلاله جراحها/ جراحنا.
هي تعلم أن أقرب نقطة للوصول إلى عمق أروحنا، الدخول عبر بوابة الوطن المذبوح الذي لم يزل يكابر وهو يمدّ ذراعيه لاحتضان من ضلّوا صوابهم، والمحملين بأحلام العاشقين:
حينَ ننجو منَ الحربِ
وهذا أمرٌ لا أتوَقَّعُه
سأسترِدُّ ديُوني كلَّها منْكَ
القُبلَ المؤجَّلة
والمواعيدَ في المقاهي القديمةِ
سأسترِدُّ طِفْلاً
ما زلْتَ تعِدُني أنْ أنجِبَهُ منْك
كلُّ هذا
فقط لو تنتهي الحرْب!
خصوصية مشروعة
يتلمّس قارئ هنادي زرقة منذ الوهلة الأولى للقراءة، ومن خلال تناولها تشريع نصّها على الورق، بأنها حاولت التغريد خارج السرب، لا لأجل خلق فوضى ما، بل لتترك خطّاً يخصّها هي وحدها، أو على الأقل لتنجو بأقل الخسائر السائدة مما هو مكرور أو ممنتج، وهنا أفضي إلى أنها ولو لمجرّد الفكرة، بأن هذه المحاولة عبور إلى غير جنس إبداعي، وأقصد هنا أن ما نوّهت إليه ينثال تحت دينامية الإبداع وجدل خصوصيته.
بدءاً من معمار النصوص ـ المشهد البانورامي ـ الذي توكّأ منذ لبنته الأولى على حالة الوعي ـ تيقظ الفكرة ـ المتجلية ـ ظهور الصورة ـ بفاعلية تعبيرية خاصة، مجازاً تماهي الواقع مع الخيال، توظيفاً لتشكيل صورة القول البعيدة، وهي فيما نطلق عليه تعريفاً ما يسمّى «الحضور الذهني» أي لحظة الوعي في القصيدة المبنية على مزج الفكرة بالشعر:
ضيّقةٌ أنتِ يا سورية
ضيّقةٌ
حتّى إنّني أرتطمُ بنفْسي مراتٍ
كثيرةً في النهارِ الواحدِ
ولا أجدُ مكاناً أركنُ فيه ظلّي.
وهنا أشي افتعالاً بأن ما تركته هنادي من ومضات تقارب «ق ق ج» القصة القصيرة جداً، لكن تناولها للأفكار أتى مغايراً لحالة السائد عبر إغفالها مضمر النصوص لتترك للقارئ المشاركة في تبيان الدلالات.
ألحان تأليفية مهموسة
عباس بيضون: تحسّس النصوص بعناية عارف، وهو أول من أطلق عليها الحكم، الذي أفضى بالقول: إذ نشعر بأن المقطوعات نوتات في لحنٍ مهموسٍ، فبعض مقطوعات المجموعة تُسقط علينا الذكرياتِ كمفاجآتٍ تحدث في لحظتها، كأنّما الحياة يعاد تأليفها من الرثاء، أو كأنّما الحرب تحصل في الزمن.
وهنا أضيف أن ما أنتجته الشاعرة، حداثات تراكمية، سجّلت فيها انفجارات المعنى واحتدام الحدث الشعري، بمعنى، شعرية التدفقات الرومنسية والعاطفية والفكرية وانفتاحها على أزمنة أخرى عبر الانطلاق من اللحظة الجمالية، والتي تقوم
على مفارقة اللحظة والانطلاق إلى مديات جمالية عابرة للجنس الابداعي:
أنحازُ لِلمَوْتى
لا ينافسونَني على شيءٍ
يمضونَ
إلى قبورِهمْ
من دونَ جلبة
طيّبونَ
لا يختصِمونَ على وطنٍ.
وفي موضع الأسئلة المباحة، تحتفي ببعض التذكارات العابرة للحلم:
هل انتهتِ الحرْبُ؟
الطفلةُ ذاتُ اليدِ المبْتورةِ
سألَتْ جندِيّاً بقَدمٍ مبْتورةٍ أيْضاً
هل يمِكنُني أنْ أبحثَ عن يَدي؟
هذا ما قالَتْه للِجنديِّ
وهيَ تُساعدِهُ في النُّهوض.
«الحياة هادئة في الفيترين»، مشهدية مختزلة لحياة كاملة بكل لواعجها، رسمت الحرب بسلطة الشعر العظيم كشاعرة، على رغم أنّ:
الشعراءُ جبناء
الشعراءُ يكتبونَ عن الألمِ
والهجْرِ والفقْدانِ
ولا يبكونَ
الشّعراءُ انْتهازِيّون
يمكنُ لهمْ أنْ يحوّلوا البازِلاءَ إلى
قصيدةٍ
الشُّعراءُ مرْضى
وفوْقيِوّن
وفوقَ هذا كلِّهِ
الشّعراءُ كَئيبون
تغارُ منهمْ الآلِهَة!