عبّاس كيارستمي… نبع السينما العذب
هدى عمران
عندما أرى فيلماً لعبّاس كيارستمي، أتذكر دائماً مطلع قصيدة للشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد تقول فيها: «ربما تعني الحياة شارعاً ممتداً تعبره كلّ صباح ودونما انقطاع امرأةٌ ما تحمل خبزها وبيتها في سلة…».
فرخزاد وكيارستمي ينتميان إلى هذه المدرسة الشاعرية نفسها في السينما، التي بدأت في سبعينات القرن الماضي في إيران، والتي اهتمت بالإنسان وتفصيلاته الصغيرة، لا الموضوعات الكبيرة.
لكن كيارستمي تجاوزها بخلق أسلوب يتجاوز أيّ أسلوب أو تقليد متعارف عليه في تاريخ السينما ككل. ففي فلسفته عن السينما يقول كيارستمي إن الحياة تعرض مضمونها برداءة، وإذا كانت السينما صورة من الواقع فهي يجب ألّا تحتوي على الإبهار البصري، وأنه يفضل أن يكون صاحب مضمون من دون أن يهتم بالشكل الذي سيعرض فيه هذا المضمون، هذه الفلسفة جعلت منه فناناً حُرّاً يخلق طوال الوقت بقلب لاعب مرتجل لا يهتم بآراء النقاد أو بحصد الجوائز. هذا ما جعل أفلامه عبارة عن قصائد من الشِّعر العذب لا تسعى إلى طرح أيّ أسئلة كبيرة تخصّ النخبة. فأسئلته دوماً عن الحياة بشكل يجعله يوغل في البساطة ويتعمق فيها، لأكتشف أنا كمشاهد أن هذه هي الحياة بعينها متجسدة على الشاشة.
منذ أيام قليلة وبعد عيد ميلاده الخامس والسبعين بأيام، رحل كيارستمي عن دنيانا، أو سافر كما كان يقول في قصائده: «أنوي السفر مع رفيق جديد، في طريق لم أسلكه من قبل»، مخلّفاً وراءه ثروة من الأفلام التي أخرجها، بلغ عددها 44 إلى جانب كتابة 46 فيلماً له ولمخرجين آخرين، على رغم أنه يعترف أنه لا يكتب الأفلام بالشكل المتعارف عليه في قالب السيناريو، لكن كما يقول إنه لا يملك سيناريوات كاملة للأفلام، فهو يضع مخطّطاً عاماً وفكرة عن الشخصية في ذهنه ثم يبدأ في رحلة البحث عن هذه الشخصية في الواقع ومعايشتها، ثمّ خَلْق الشخصية في ذهنه ثم تجسيدها داخل الفيلم. ويقول عن ذلك: «إن أفلامي أقرب كثيراً إلى الشخص الحقيقي من أيّ شيء أحاول خلقه، أنا أعطي لهم شيئاً لكنني أيضاً آخذ منهم».
حتى سيناريو فيلم «البالون الأبيض» الذي كتبه للمخرج الإيراني جعفر بناهي، لم يكتبه بالشكل التقليدي، بل من خلال محاورات طويلة داخل سيارته سجّلها بناهي في مسجّل وفرّغها بعد ذلك ليحصد عليها جائزة «الكاميرا الذهبية» من مهرجان كان، كأفضل فيلم روائيّ أوّل.
بدأ كيارستمي حياته المهنية مصمّم أغلفة للكتب والبوسترات والإعلانات، لكنّه في عام 1970 قرّر التحوّل إلى الإخراج السينمائي، وأسّس قسماً للإنتاج السينمائي في مؤسسة «التطوير الفكري للأطفال»، وأخرج أوّل أفلامه الطويلة «خبز وزقاق»، وأخرج من خلال هذه المؤسسة أيضاً تحفته الرقيقة «أين منزل صديقي؟» 1979. الفيلم الذي أخذ عنوانه من قصيدة، يحكي عن طفل صغير يحاول إيصال دفتر لصديقه في الصف حتى لا يتعرض للعقاب في رحلة ناعمة يعرّض فيها الطفل نفسه للخطر الذي يظهر له متجسّداً في كلب شارع.
بعدئذٍ، كان فيلم «كلوز آب» 1990 الذي لفت الانتباه العالمي له ووضعه ضمن المخرجين الكبار، ثمّ كانت تحفته الفنية الأجمل، فيلم «طعم الكرز» 1997 الذي نال عنه السعفة الذهبية، يحكي الفيلم عن رجل ينوي الانتحار، يقود سيارته التي يكون معظم الفيلم داخلها يُقلّ بها في الطريق أشخاصاً يعرض عليهم المال مقابل مساعدته في الانتحار، سيلقي نفسه بالسيارة في حفرة، لكنه يخشى ألا يموت، مهمة الشخص المساعد تتلخّص في أن ينادي عليه بعد أن تسقط السيارة، إن كان حيّاً سيخرجه من الحفرة، وإن كان ميتاً سيردم عليه التراب.
يطرح كيارستمي من خلال هذه الرحلة أسئلتنا الكبيرة حول الحياة والموت، التي تنهزم أمام سؤال صغير جداً يسأله أحد العابرين للبطل: «الموتى لا يستطيعون أكل التوت، ألن تفتقد طعم التوت؟». هكذا هي سينما كيارستمي التي تدرك معنى الحياة الكامن في أشيائنا الصغيرة جدّاً، الصغيرة حدّ أننا لا نراها.
في آخر أفلامه الطويلة «مثل شخص يحبّ» 2013، يحكي عن مدرّس جامعيّ متقاعد يؤجّر فتاة ليمارس معها الجنس، لكنه يجد نفسه متورّطاً في حياتها الشخصية ومع خطيبها الذي يعتقده جدّها. تسير الحكاية في مسار بسيط ليست فيه أحداث درامية كبيرة، وينتهي بلا نهاية تقريباً، تاركاً للمشاهد صناعة حكاية تكميلية ومشاركاً أياه تساؤلاته، غير مهتمّ بالإبهار أو الاستعراض بالصورة، مركّزاً على الإنسان الذي هو موضوعه فقط.
يقول كيارستمي في قصيده له: «إذا كان في أعماق المحيط، نبع، كيف يمكن أن يكون؟»، يبدو كيارستمي هو نفسه ذلك النبع العذب داخل محيط السينما المزخرف بالأحداث والصور، هو النبع العميق المتدفّق بالحكايات والشخوص العالقة بيننا بلا انتهاء.