مختصر مفيد
مختصر مفيد
اجتماع طهران الثلاثي وخارطة طريق إقليمية للحرب والسياسة
رغم قسوة ظروف الحرب وفواتيرها المرتفعة على الشعب والجيش والاقتصاد والعمران، لم تفقد الدولة السورية أعصابها، ولا وضعت لخطّة سيرها روزنامة تضغط بها على حلفائها، بل نجحت طوال خمس سنوات ونصف السنة بالتحكّم بمسار الحرب وفقاً لخطّتين متوازيتين، واحدة تنطلق من المقدرات السورية وحدود الدعم التقليدي للحلفاء وموضوعها الصمود في وجه الحرب وآلياتها الجهنمية التي تفتك بالبشر والحجر والجغرافيا والتاريخ. والثانية تنطلق من استقراء مواقيت نهوض الحلفاء وشروطه لنقلات نوعية في مسار الحرب لفرض وقائع جديدة تغيّر في وجهتها من الدفاع السلبيّ إلى الدفاع الإيجابي. فالهجوم عندما تتوافر الفرص.
قد يسهل لمن لا يعيش ضغوط الحرب وتفاصيل تحدّياتها أن يتفلسف بالممكن والواجب، وأن يتخيّل ما يرغب أن تقوم به الدولة السورية. لكن مَن يتابع عن قرب سيعترف للقيادة السورية بصبر عظيم وإرادة فولاذية وبصيرة ثاقبة ورؤية استراتيجية وفهم عميق للتحالفات وإدارتها، وتكفي العودة بالذاكرة إلى الأيام والأسابيع والشهور الأولى للحرب، التي بدأت ناعمة على سورية، قبل الظهور العلني للتشكيلات الإرهابية، لنتذكّر كيف كانت دمشق تدير بعناية عالية علاقتها بفهم حلفائها لما يجري عندها، ومساعدتهم مرّات بالشرح ومرّات بالدعوة للعب دور الوساطة مع «المعارضة» وتقديم العروض، وثالثة بإطلاق المبادرات، حتى استقام فهم مشترك وتشخيص قائم على إدراك موحّد لماهية الذي تشهده سورية، كحرب ذكية لنقل موقعها في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط من ضفة إلى ضفة، تستهدف ضرب التوازنات الإقليمية والدولية التي يحفظها موقع سورية الراهن.
توصلت إيران إلى استثناء سورية من مفردتها التي رافقت «الربيع العربي» بوصفه بالصحوة الإسلامية، وما تضمّنه من رهان إيجابي على تسلّم الأخوان المسلمين الحكم في مصر وتونس. وتالياً تطوّر الموقف الإيراني بقراءة لعب حزب الله دوراً رئيساً فيها في النظر إلى موقع تنظيم الأخوان ودوره ومحاولاته من تركيا إلى مصر إلى قطر لجذب حركة حماس خارج خيار المقاومة. ووصل الفهم الإيراني خلال سنتين من بدء الحرب على سورية إلى الوضوح الذي يشخّص موقف تركيا والأخوان، وينظر بالعين السورية ذاتها إلى ما يجري في المنطقة، وإلى موقف تركيا وموقعها. وخلال سنتين مماثلتين، كانت روسيا تحسم أمرها باللجوء إلى استخدام غير مسبوق لحقّ الفيتو في وجه مشروع قرار تقدّمت به الجامعة العربية يمهّد لشنّ حرب على سورية تشبه الحرب الليبية. وبعد ذلك كشفت تطوّرات أوكرانيا لروسيا ما كشفته مفاوضات الملف النووي لإيران، من ترابط وتلازم يجمعان الحرب على سورية بالملفات الكبرى المتصلة برسم خارطة نظام عالمي جديد ونظام إقليمي جديد، راهنت واشنطن على ترسيخهما من بوابة الحرب السورية بحجمين جديدين لكل من إيران وروسيا، من دون سورية، ومقابلهما للسعودية وتركيا و«إسرائيل»، ومن ورائهم أميركا والغرب، ومعهم سورية.
شكل مجيء الأساطيل الأميركية إلى البحر المتوسط تحت عنوان توجيه ضربة إلى سورية، لحظة تاريخية مفصلية في إنضاج فهم الحلفاء وتظهير قراءتهم وتحويلها إلى مواقف وأفعال. وكانت المفاجأة التي فرضت على واشنطن الاستدارة والعودة بأساطيلها من دون خوض حرب، وقد ظهر يومَها لروسيا وإيران حجم الخطر المترتب على الحركة الأميركية العسكرية فاستنفرت موسكو وأسقطت الصواريخ التجريبية الأميركية وأعلنت تزويد سورية بما تحتاج للدفاع عن نفسها، وربطت دفاعاتها بمراكز الإنذار المسبق للصواريخ الباليستية في سيبيريا بتوجيه مباشر علنيّ من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وتصرفت إيران بالمثل فأعلنت أن ما يجري يخلط الأوراق في منطقة لزجة ويعرّضها لكل الاحتمالات، وأن إيران لن تتفرج على ما يجري في محيطها الحيوي، وما يخصّ سورية التي تشكل قاعدة المقاومة الرئيسة على حدود فلسطين. وأعلن حزب الله أنه سيتصرف على قاعدة اعتبار كلّ عدوان على سورية عدواناً «إسرائيلياً» ويتصرّف على هذا الأساس. بينما أعدّت سورية ما لديها كي لا يكون العدوان نزهة للأميركيين.
عاد الأميركيون بأساطيلهم بعدما ارتضوا حلّاً سياسياً للسلاح الكيماوي السوري، لم يكن أصلاً ضمن أهداف حملتهم، لكنه شكّل تعويضاً يحفظ ماء الوجه لتبرير التراجع عن خيار الحرب. وتأكد الطابع التاريخي لما يجري بإقدام الأميركيين على المبادرة لاستئناف التفاوض على الملف النووي الإيراني في الشهر التالي لعودة الأساطيل، بعد توقفه سنة كاملة، وظهور بوادر تؤكد وجود منهجية تفاوضية جديدة وجدية، توجت خلال سنة ونصف السنة بتوقيع التفاهم على هذا الملف بصورة حقّقت لإيران أهدافاً صمدت لحمايتها طوال عقدين، تحمّلت خلالهما العقوبات والحصار ومخاطر الحرب. بينما شهدت الشهور اللاحقة على الجبهة الروسية قبولاً غربياً بالتغاضي عن ضمّ روسيا شبهَ جزيرة القرم وفتح مفاوضات مينسك للتوصل إلى اتفاق سياسي يراعي مقتضيات المصالح والتوازنات لروسيا والغرب في منتصف الطريق، وتوّج ذلك المسعى بنجاح المفاوضات وصوغ اتفاق يرضي ما تعتبره موسكو خطوطها الحمراء.
انتقلت سورية مترسملة بنجاحات الحلفاء بتخطّي أزمات وتحدّيات، وقد ترسملوا بصمودها، للانتقال إلى مرحلة جديدة شكّل التموضع العسكري الروسي المباشر وما عُرف بـ«عاصفة السوخوي» عنوانها الأبرز. وكما رفضت الإصغاء للمشككين بالحلفاء في الأيام والشهور الأولى للحرب وتصرفت بثقة القادر على إدارة الصراع والإمساك بمفاتيحه، رفضت هذه المرة الإصغاء لصيحات التهليل بالنهاية السريعة للحرب وتمتّعت بميزتَي الواقعية والصبر ذاتيهما، اللتين تمتعت بهما من قبل، وهي تدرك جيداً التدرج والتعرج اللذين سيحكمان المداخلة العسكرية التي لن تصير حسماً متدحرجاً إلا بشروط ترتبط بحسابات وتوازنات، خصوصاً بالنسبة إلى موسكو التي تدير حضورها العسكري في سورية، وستحرص على إدارته بما يتناسب مع تطلّعها للعب دور الدولة العظمى من جهة، وبتوفير مقتضيات تشكيل قواعد عالمية جديدة للحرب على الإرهاب تحت مظلة تعاون تظلّله راية الأمم المتحدة من جهة أخرى.
شكّل اجتماع وزراء الدفاع الروسي والسوري والإيراني محطة هامة في رسم خارطة الطريق للانتقال من مرحلة إلى مرحلة في هذه الحرب التي صارت المبادرة فيها بيد سورية وحلفائها للمرّة الأولى منذ انطلاقها، وجاءت معارك حلب لتترجم هذه الخارطة، ومثلها ما ستحمله زيارة وزير خارجية أميركا جون كيري إلى موسكو. وسورية واثقة وقادرة وجاهزة للتعامل مع كل الاحتمالات باليقين ذاته بصحة الخيارات والتحالفات، والصبر العظيم الذي ينتج وحده النصر العظيم.
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.