حقائق عن تروتسكي في ذكراه
كتب نذير الماجد: تحل في مثل هذه الأيام، تحديداً في 21 آب، ذكرى جريمة سياسية فظيعة: اغتيال ليون تروتسكي 1879- 1940 أحد أبرز قادة الثورة البلشفية «الروسية»، المناضل القادم من أوكرانيا ليقود «ثورة أكتوبر»، وليؤسس الجيش الأحمر والأممية الرابعة، رفيق لينين الذي اغتاله الساذج الفظ ستالين غداة انحدار دولة البروليتاريا والثورة الاشتراكية إلى أوتوقراطية بونابرتية يعقوبية، وبيروقراطية آخذة في تقلصها، من سيطرة الحزب الأوحد، مروراً بالستالينية، لتصل في ذروة الاختطاف إلى عبادة الفرد: ستالين «حفار قبر الثورة»، بحسب ما أسماه تروتسكي.
كتب البولندي اسحق دويتشر ثلاثية لتروتسكي كنبي مسلح و»نبي أعزل» و»نبي منبوذ»، ثلاثة مجلدات تسرد حياة ليون برنشتاين الذي اتخذ لاحقاً اسم سجّانه «تروتسكي».
هذا الكتاب الضخم أكثر من سيرة، إنه «تاريخ» يعرض حقبة بكاملها، لكنه تراجيديا أيضاً. خلاصتها القاعدة المعروفة جيداً: الثورة تلتهم أبناءها، الثورة تغدر بالثورة. تُختطف من وجوه عرضية وأفواه نهمة، تلتهم السلطة والسياسة واللحم البشري، أفواه لها أسنان حادة لا تكف عن تحويل تاريخ الثورة إلى تاريخ خيبات، هي خيبات البطل والشعب، خيبات تروتسكي الذي صنع مجداً لم يتذوقه، وخيبات حشد المنبوذين المهمشين الذين يرتع على أجسادهم «يهوذا» البلشفي.
البعد التراجيدي لتروتسكي ينتزع من المأساة خصائصها الإغريقية. مأساة هذا الرجل لا تتمثل في تمزقه بين القدر ووصايا الإله من ناحية، والحرية من ناحية أخرى، أو بين الطبيعة الواقع والمثال الإلهي، الصراع المأسوي هنا ليس سوى صراع بين الفكرة ومآلها: كيف تخون الثورة ذاتها، كيف يتحوّل تروتسكي القائد المتحمس إلى عنوان لكل خيانة تستوجب إقامة المشنقة؟ وأخيراً، كيف تتحول الأحلام إلى كوابيس؟
الحلم الدائم للثوري، كما هي حال تروتسكي، هو السباحة في عراء الطهر، ذلك الطهر الملوّث دائماً بآفات التجديف. من هنا أمكن القول إن الثورية التي تليق وحدها بذلك الحلم الذي لا ينتهي، بذلك الانهماك الدائم في منابذة الحاضر، للحضور في لحظة لا تنفك عن الانسحاب والهرب، هي فقط تلك المؤهلة للاتسام بنعوت الهرطقة، بصفات الفضح والتعري، سعيا إلى نيل طهارة أو براءة غير مكتملة، وما ذلك إلاّ لاستحقاق تلك اللحظة القادمة من رحم المستقبل.
ما يميّز الثوري، هذا الحالم الجسور، عن السياسي الواقعي هو تماماً ما يفصل الحاضر عن المستقبل. صحيح أنهما يتشابكان معاً مع الحاضر، لكن الفرق جوهري رغم ذلك، فإذا كان الواقعي أو المحافظ اليميني يتشابك مع الحاضر لامتلاكه والاستحواذ عليه بتأبيده، فالآخر أيضاً يهتم بحاضره، إنّما لكي يتهمه ويدينه ويثور عليه.
هناك حالة شعرية تنتزع من السياسة مكوّنها التآمري، تقتل نزوعها الواقعي البارد، لتصيبها بالحمى: تصبح السياسة نوعاً من الرومانس، تتصالح مع الحب والمرض الجميل للحمى والوهم الذي يشبه الواقع. الثورية سياسة محمومة، سياسة هذيانية، سياسة ارتياب من كل ما هو ناجز وواقعي. في الحمى تموت كل الجراثيم الكئيبة لصقيع الواقعية، ليبقى الواقع مسرحاً لتلك الروح المتهيّجة، الحمى السياسية كأزمة محببة هي إذن الوجه الآخر للتاريخ، هي وجهه الشعري، هي شرارته التي تمنح الثوري ثوريته.
في الفلسفة الهيغلية التي قلبها ماركس مقولة مركزية مفادها أن كل فلسفة هي مثالية، أما هنا، مع تروتسكي، ومن دون خيانة المعلم الأول، تنداح الثورية، بصفتها «ممارسة» عائدة نحو المنبع الهيغلي، لتغدو الثورية مثالية ممسوكة باليد، ما يعني أن هناك شيئاً من الانشداد إلى مثالية أفلاطونية تفضح باستمرار اللاثوري في الثوري، تفضح ستالين وروسبيير ويهوذا الذي ينتظر دائماً.
يمتزج الثوري في الثورة إلى حد إدمانها، لذا قال ستالين في ثناء غير مقصود، إن قوة تروتسكي تتناسب طردياً مع قوة الثورة، «تظهر في الفترات التي تسجل فيها الثورة تقاطعاً وتقدماً وتتراجع حين تتراجع الثورة». هذا صحيح، ستالين على حق، إذ لا يتحرك الثوري إلاّ على إيقاع الثورة. يغيب الثوريون، تغيب مصالحهم وأحزابهم، لتبقى الثورة وحدها، الثورة الدائمة مثلما نظر لها تروتسكي نفسه: «ليس ثمة غير الجهلة يظنّون أن الثوريين هم الذين يصنعون الثورة، وأن في وسعهم إيقافها حين يشاؤون».
تركة تروتسكي حافلة بالفضائح، فضائح ثورة على مقاس ستالين، وحافلة بالتاريخ وبالأفكار. ما يلفت حقا هو مفهومه النابذ للدولة «كل دولة» باعتبارها تنحو باستمرار إلى أن تكون جهازاً قمعياً، فالتصور التروتسكي يرتاب من كل سيرورة لترسيخ الدولة وتثبيتها كمعطى نهائي ومكتمل، ينشأ عن نبذ هذه الدولة بمفهومها البيروقراطي والقمعي المناهض لإمكانيات التغيير كافة، والنقيض التام بالتالي – لكل سعار ثوري، ينشأ مفهوم محايث لا يقل أهمية: الثورة الدائمة، التغيير الدائم، التغيير بصفته أصلاً في مقابل الاستقرار كتأبيد لواقع معطى.
يبقى تروتسكي بطلاً لمأساة إغريقية لم يكتبها سوفوكليس ولا أسخوليوس. بطولة تقع في قلب التصالب الشديد بين حتمية التاريخ وحرية الفرد – ما هو الهامش المتاح للبطل في تغيير الواقع ونحت المستقبل ضمن ذلك الهياج كلّه لمعمعة التاريخ؟ – بطولة تمنح دويتشر الجرأة على اختيار عنوانه: ها قد تحوّل تروتسكي إلى نبي متخم بالنبوءة والحلم إنما الخيبات كذلك.
كتب تروتسكي: «الموت للطوبى! الموت للإيمان! الموت للحب! الموت للأمل! هكذا يرعد القرن العشرون وسط فرقعة الحرائق ودوي المدافع.
– استسلم، أيها الحالم المثير للرثاء. ها أنذا قرنك العشرون الذي طال انتظارك إياه، «مستقبلك».
– كلا، يجيب المتفائل غير المنهزم، أنت لست سوى الحاضر».