لبنان لم يضبط توقيته على ساعة التفاهمات الكبرى غزة: حرب الاستنزاف والخيارات الصعبة
كتب المحرر السياسي
إذا كان ثمة ما يجري في المنطقة، بما تشير المعلومات المتوافرة إلى استحالة حدوثه من دون تفاهمات كبرى بين اللاعبين الكبار، فإنّ بعض ما يجري يشير إلى أنّ شدّ الحبال مستمرّ، عبر من هم أقلّ مكانة في القضايا الكبرى التي ترتسم عبرها الخريطة الإقليمية للمنطقة، إما لأنّ حدود ما يجري إطلاعهم عليه، لا يسمح بوضعهم في صورة التفاهمات، لأنّ دور ساحاتهم لم ينضج لتلقّي نتائج يجب تبلورها في الواقع قبل أن تدقّ ساعة إشراكهم، أو لأنّ ما يجري هو بداية صياغة التفاهمات ولا تزال التوازنات غير نهائية في تحديد الأحجام والأدوار في قلبها، فيكون الصراع المفتوح من دون بلوغ مستوى تهديد مبدأ التفاهم، هو ضرورة لبلورة هذه الأوزان والأدوار والأحجام.
في العراق ساحة الصراع التي ورثت مكانة سورية كساحة حرب رئيسية، يبدو التفاهم الدولي الإقليمي، متقدماً منذ أن تمّ انتخاب رئيس مجلس النواب بإجماع الكتل النيابية وتلاه انتخاب رئيس الجمهورية بإجماع مشابه، ومن ثمّ الشكل الذي تمّت فيه تسمية رئيس الوزراء وبعده انسحاب رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وهي استحقاقات ما كانت لتتمّ بهذه السلاسة من دون تفاهم تتشارك فيه إيران وأميركا والسعودية.
ما كان ممكناً للطيران الحربي الأميركي دخول الأجواء العراقية قرب الحدود مع سورية وإيران من دون تفاهم كبير، وما كان ممكناً أن يتقدّم تشكيل الحكومة العراقية الجديدة من دون هذه التفاهمات.
لكن مقابل المؤشرات العراقية مؤشرات فلسطينية معاكسة، حيث التصعيد مستمرّ والعجز عن التوصل إلى وقف النار يجعل الحرب أشدّ قسوة ووحشية، ويحصد الأبرياء يومياً بآلة القتل «الإسرائيلية»، بينما المقاومة تضع ثقلها لخلق توازن رعب جديد، يحمي مواطنيها في حرب استنزاف تواجه الخيارات الصعبة على الضفتين الفلسطينية و»الإسرائيلية»، حيث التفاهم في حال الاستعصاء، والحرب كخيار لتحقيق النصر العسكري لا تملك خطة لدى الفريقين.
بعض ما يجري يؤكد هذا السياق مثل كلام وزير الداخلية اللبناني نهاد المشنوق، عن رفض مقايضة العسكريين المخطوفين بموقوفي رومية، والتأييد الصادر عن وزير العدل أشرف ريفي لهذا الكلام، بينما كلام ريفي نفسه عن تشبيه حزب الله بـ»داعش» يبدو خارج هذا السياق.
مثله الحديث عن تفاهم على فك الحظر عن الدور التشريعي لمجلس النواب وعودة الرئيس سعد الحريري بمشروع تمديد للمجلس النيابي، وتولّي النائب وليد جنبلاط مهمة تسويق هذا التمديد، وملاقاة النائب سليمان فرنجية له بذلك عبر الوزير روني عريجي، بينما مواقف نواب كتلة المستقبل عن رفض مستديم لسلسلة الرتب والرواتب التي يجب تمريرها قبل البحث في تمديد ولاية المجلس، من بوابة مناقشة تعديل المهل لإصدار مرسوم دعوة الهيئة الناخبة، يوحي أنّ لبنان لا يزال خارج زمن التفاهمات، وأنه لم يضبط توقيته على ساعتها بعد، ربما لأنه يجب أن تحدث أشياء أخرى قبل أن يُقال للبنانيين أنّ ملفهم قد نضج لتلقّف الحلول الكبرى في ساحتهم، أو لأنّ لبنان يجب أن يبقى ساحة ترصيد للتوازنات المتحرّكة في حساب الأحجام والأدوار.
هيئة العلماء المسلمين التي تتولّى الوساطة في قضية العسكريّين، والمعلوم علاقتها المميّزة بـ»داعش» و»جبهة النصرة» وسائر مكوّنات «القاعدة»، تهدّد بوقف وساطتها اليوم، ما لم تسمع من رئيس الحكومة تمام سلام جواباً واضحاً عن الاستعداد للتفاوض على شروطها، التي تتضمّن مطالبة بسحب حزب الله لوحداته من سورية أو موقفاً حكومياً من هذا الوجود، وتضع عناوين لصفقة تبادل للمخطوفين بموقوفي «القاعدة» لدى الدولة اللبنانية، وصولاً إلى كلّ موقوفي رومية من الإسلاميين.
إما أن توقف الهيئة وساطتها أو تسقط الدولة اللبنانية إذا قبلت الشروط، هذا ما يبدو حاصل موقف غالبية كاسحة في الحكومة اللبنانية، على رغم رفض رئيس الحكومة التحدّث في الموضوع أمام وزرائه.
سلام: «أزمة» العسكريين المحتجزين كبيرة
أما في الملفات الداخلية، فإن البدء بمعالجة الاستحقاقات الداهمة ينتظر حصول توافق بين الكتل النيابية على المسار الذي ستذهب إليه الأمور في ما يتعلق بالخيارات حول ما بعد انتهاء الولاية الحالية الممددة لمجلس النواب والمحصورة بين إجراء الانتخابات أو التمديد مع أرجحية كبيرة للخيار الثاني. في حين دخل موضوع التفاوض مع «داعش» وأخواته من تنظيمات إرهابية والذي تتولاه «هيئة العلماء المسلمين» مرحلة الابتزاز المكشوفة مع توسيع الإرهابيين لمروحة مطالبهم، التي كان آخرها اشتراط انسحاب حزب الله من سورية للإفراج عن العسكريين المخطوفين، إضافة إلى إطلاق سراح عدد من الإرهابيين الموقوفين في سجن رومية.
وأثار عدد من الوزراء هذا الموضوع خلال جلسة مجلس الوزراء أمس. وعلمت «البناء» أن الوزراء استفسروا رئيس الحكومة تمام سلام عما آلت إليه المفاوضات مطالبين بإطلاعهم على المعلومات المتعلقة بهذه القضية. إلا أن سلام رد بالقول «إن الأزمة كبيرة»، رافضاً الإفصاح عن فحوى المفاوضات حفاظاً على أرواح العسكريين، على ما قال، مشيراً إلى أن التفاوض يجري بتكتم وبسرية كبيرين.
الإرهابيون يفتحون بازار الابتزاز؟
من جهته، أعلن الناطق باسم «هيئة العلماء المسلمين» عدنان امامة أن الهيئة ستلتقي سلام اليوم لمعرفة الرد على ما وصفه مطالب المسلحين. وأضاف: «على هذا الأساس يتقرر مصير الجهود التي تقوم بها الهيئة»، مشيراً إلى أن الأسباب وراء احتمال توقف مبادرة الهيئة هي أولاً إذا كان موقف وزير الداخلية نهاد المشنوق هو موقف رسمي، والثاني دخول وسيط خارجي على خط المفاوضات. وكان المشنوق أكد رفض أي مقايضة بين العسكريين المخطوفين والإرهابيين الموقوفين، نافياً علمه بدخول أي وسيط خارجي على خط الاتصالات.
وفي السياق، أكد وزير العدل أشرف ريفي أن ما عبر عنه المشنوق «موقف لبناني ويعكس رأي المجموعة كاملة»، مشدداً على أن «الدولة لن تفرّط بهيبتها وستحافظ على صورتها وهي تراهن على استعادة العسكريين أحياء».
وأشار ريفي في حديث تلفزيوني إلى «أن لا أحد يمون على المسلحين المتطرفين على رغم مساعي هيئة العلماء المسلمين»، معتبراً «أن لبنان دفع الثمن الأقل خلال حوادث عرسال وهو في تجنيب لبنان حرب شاملة وحرب استنزاف طويلة الأمد».
وبعيداً من موقف الوزير المشنوق فإن الابتزاز الذي لجأ إليه الإرهابيون حذرت منه «البناء» منذ اليوم الأول لفتح بازار التفاوض مع المجموعات الإرهابية لأنه لن يكون لمصلحة لبنان ولا حتى لمصلحة المؤسسة العسكرية، وقد جددت جهات معنية تحذيرها من أي تنازلات قد تُفسّر بأنها استجابة لشروط الإرهابيين، لأن ذلك يشجعهم على مزيد من الأعمال الإرهابية بدءاً من محاولة خطف عسكريين أو حتى مدنيين لمبادلتهم بإرهابيين موقوفين.
من ناحية أخرى، وافق قاضي التحقيق العسكري نبيل وهبة على تخلية سبيل المدعى عليه وسام أحمد القص، والمتهم بالانتماء إلى «كتائب عبدالله عزام» الإرهابية، والتخطيط لاغتيال أحد ضباط الأمن في الشمال والقيام بأعمال تفجير في مناطق مختلفة من لبنان وإطلاق صواريخ.
خلافات ما قبل التمديد وما بعده
على الصعيد السياسي، تتحدث مصادر نيابية مطلعة عن «كربجة» في الاتصالات التي تسبق التمديد لمجلس النواب وتليه، مشيرة إلى أن هذه «الكربجة» تطاول عدداً من القضايا التي يفترض حصول اتفاق عليها، تبدأ من مدة التمديد التي يرغب تيار «المستقبل» بألا تقل عن سنة ونصف السنة، بينما هناك غالبية نيابية تريدها لفترة قصيرة. وهو ما أشار إليه النائب وليد جنبلاط. ولفتت المصادر إلى أن حلفاء «المستقبل» ـ أي الكتائب و«القوات اللبنانية» ـ يريدان عدم إطالة فترة التمديد.
كذلك تتحدث المصادر عن استمرار الخلاف على المدى التشريعي الذي سيقوم به المجلس قبل انتخاب رئيس الجمهورية، بحيث أن فريق 14 آذار يريد حصره في الأمور الضرورية وهو ما يلاقي رفضاً من الرئيس نبيه بري. إلا أن المصادر أكدت أن رئيس المجلس مقتنع بأن لا مبرر للتمديد طالما أن المجلس معطل ولا يؤدي بدوره في التشريع ومراقبة الحكومة.
اقتراح تعديل دستوري
وفي سياق متصل، تقدم عشرة نواب من تكتل التغيير والإصلاح في مقدمهم رئيس التكتل النائب ميشال عون باقتراح قانون تعديل دستوري لانتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب.
على أن مصادر عليمة توقفت عند مضمون البيان الحاد الذي صدر أول من أمس عن اجتماع التكتل ورأت فيه رسالة إلى تيار «المستقبل»، لما تضمنه من انتقادات المقصود بها التيار وليس غيره. ولاحظت أن هذه الانتقادات تعكس مزيداً من التردي في العلاقة بين الطرفين في سد أفق الحوار بينهما، في وقت لم يفِ المستقبل بالحد الأدنى بأي من وعوده بالسعي إلى انتخاب رئيس للجمهورية، بل عمد إلى وضع الكرة في الملعب المسيحي. وتساءلت المصادر هل انتهى الحوار بين الطرفين؟
وفي الشأن السياسي أيضاً، قال الرئيس بري أمس إننا لم ندخل الخط الأحمر في تجاوز فرصة انتخاب رئيس للجمهورية وكذلك إجراء الانتخابات النيابية.
الإضراب يشلّ الإدارة
وفي موازاة هذه الخلافات، واصلت هيئة التنسيق تحركها في الشارع مهددة بالتصعيد اعتباراً من الأسبوع المقبل رفضاً للمماطلة في إقرار سلسلة الرتب. وبدعوة منها نفذ أمس إضراب شامل في الإدارات العامة والوزارات مع اعتصام حاشد أمام وزارة الاقتصاد. وأكدت الهيئة مجدداً استمرارها في معركة إقرار السلسلة، محمّلة الكتل النيابية الرافضة إقرار السلسلة مسؤولية ما يحصل، داعية إياها إلى النزول إلى المجلس لإقرار الحقوق.
ولاحظت مصادر الهيئة أن ما يحكى عن إيجابيات في الاتصالات القائمة حول السلسلة هو مجرد كلام. وأشارت إلى ما بلغها من الاتصالات المختلفة التي تؤكد أن بعض الكتل لم يغير في سياسته الرافضة إعطاء كامل الحقوق بهدف نسف السلسلة وتخفيضها من جهة، ورفض إعطاء المعلمين حقوقهم عبر الدرجات الست، من جهة ثانية.