الانهيار المفاجئ للإمبراطورية الأميركية

أسامة العرب

كيف هي حال الوحدة الوطنية داخل الولايات المتحدة الأميركية؟ وهل أميركا في طريقها للتقسيم؟ لا سيما أنّ التاريخ الأميركي شهد حركات انفصالية عديدة، فعندما تمّ انتخاب ابراهام لينكولن الداعم لإلغاء العبودية رئيساً لأميركا في عام 1860 أدّى ذلك إلى إعلان إحدى عشرة ولاية من ولايات الجنوب تحت قيادة جيفرسون ديفيس، الانفصال عن الولايات المتحدة وتأسيس الولايات الكونفدرالية الأميركية، وإعلان الحرب على اتحاد الولايات. وقد استمرّت هذه الحرب خمس سنوات، وتُعتبر أنها كانت الحرب الأكثر دموية في التاريخ الأميركي، حيث أدّت إلى مقتل 620.000 جندي وعدد غير معروف من الضحايا المدنيين. ترتب على هذه الحرب إنهاء الرقّ في الولايات المتحدة، واستعادة الاتحاد.

وبداية التعبير عن الهمّ الإنسانى للسود في أميركا، أتت في مطلع القرن التاسع عشر، حيث كان صوت «دافيد واكير» الكاتب الأفريقي من أعلى هذه الأصوات وأكثرها إقداماً، حيث قدّم نقداً لاذعاً ضدّ العبودية والعنصرية في أميركا. كما صدرت «مذكرات حياة فريدريك دوغلاس، عبد أميركي بقلمه» وفيها سرد بليغ لمواقفه المعادية للأغلال. أما كتاب «الجذور» للمؤلف الأميركي «إليكس هيلي» فقد كان أكثر من عبّر عن الوجع الأفريقي في أميركا، والتي تناولت حياة الأفريقي كونتا كنتي وكيف تمّ أسره بواسطة تجار العبيد، كاشفاً عن الطريقة الهمجية التي مورست لاصطيادهم وبيعهم في مزارع العبيد دون أن ينالوا أياً من حقوقهم الإنسانية.

ولكن طيلة الفترة السابقة بقي القانون الأميركي يعامل الأميركيين من أصل أفريقي معاملة العبيد، فيحرمهم من حق التعلّم والهجرة والتصويت، والمواطنة، وحيازة الأراضي، ويطبّق عليهم الإجراءات الجنائية القاسية على مدى فترات طويلة من الزمن. وحتى منتصف القرن الماضي كانت تنص القوانين في الولايات المتحدة على فصل صارم بين السكان السود والبيض وحرمانهم من العديد من الحقوق الإنسانية. ولهذا قام الأفارقة الأميركيون في عام 1963 بثورة لم يسبق لها مثيل في قوتها اشترك فيها 250 ألف شخص، منهم نحو 60 ألفاً من البيض متّجهة صوب نصب لينكولن التذكاري، حيث كانت أكبر تظاهرة في تاريخ الحقوق المدنية، وهنالك ألقى الدكتور مارتن لوثر كينغ جونيور أروع خطبه، حيث قال: «لدي حلم بأنّ يوماً من الأيام أطفالي الأربعة سيعيشون في شعب لا يكون فيه الحكم على الناس بألوان جلودهم، ولكن بما تنطوي عليه أخلاقهم». ولكن كان ردّ الويلات المتحدة على كينغ سريعاً، حيث تمّ تهريب أحد المجرمين المحكوم عليه بالسجن لمدة عشرين عاماً، فقط من أجل تنفيذ عملية اغتياله عام 1968، والتي على أثرها اندلعت أكبر أعمال عنف في تاريخ الولايات الأميركية، ما تطلّب استدعاء أكثر من ستين ألفاً من الحرس الوطني لإيقافها، بعدما اندلع أكثر من ستمئة حريق في واشنطن وحدها. ومن ثم بحلول عام 1966 ظهرت حركة القوة السوداء والتي استمرّت 1966-1975، وسعت إلى أهداف حركة الحقوق المدنية لتشمل السياسية والاقتصادية والاكتفاء الذاتي، والتحرر من سلطة البيض.

وفي الأعوام السابقة، شهدت مدينة فيرغسون بولاية ميزوري الأميركية اضطرابات وأعمال عنف منذ مقتل شاب أسود برصاص شرطي أبيض. كما جرت سلسلة من حوادث قتل مواطنين سود عزّل برصاص ضباط شرطة بيض في بالتيمور بولاية ميريلاند، ما أدّى إلى اشتعال المدينة بأعمال العنف على أثر الاحتجاجات. ومن ثم شهدت أميركا مجزرة تشارلستون بولاية كارولينا الجنوبية، حيث راح ضحيتها تسعة مواطنين أميركيين من أصول أفريقية في كنيسة «ساوث كارولينا»، ما اعتبر بأنه قفزة مأساوية في جرائم الكراهية ضدّ الأميركيين السود.

أما اليوم، فتقف الولايات المتحدة الأميركية مجدّداً على حافة حرب عنصرية جديدة، اذا لم تتدارك الأمور بوقفها، وهي حرب بدأت تطلّ برأسها في أكثر من ولاية، فقد اشتعلت «ثورة» الغضب في شوارع الولايات المتحدة، مندّدة بوحشية الشرطة الأميركية ضدّ السود، وخرجت مظاهرات في ولايات واشنطن ونيويورك وأريزونا ولويزيانا وكاليفورنيا وجورجيا وتكساس وفيلادلفيا تحمل شعار «حياة السود تهم» احتجاجاً على عنصرية الشرطة. فمؤخراً قام شرطي من ذوي البشرة البيضاء بقتل مواطن من ذوي البشرة السمراء يُدعى آلتون سترلنغ 37 عاماً ، في مدينة باتون روج، عاصمة ولاية لويزيانا الأميركية، أثناء قيام الأخير ببيع نسخة مقلدة من أقراص مدمجة للأغاني والأفلام خارج أحد متاجر المدينة وهذا ما يعاقب عليه القانون الأميركي . فعلى خلفية مشادّة بين سترلنغ واثنين من عناصر الشرطة من ذوي البشرة البيضاء، استهلّ أحدهما سلاحه وأطلق النار على الرجل، ليُرديه قتيلاً. وبعد يوم واحد، حصل كذلك حدث مماثل، إذ خرّ الشاب صاحب البشرة السمراء فيلاندو كاستيل 32 عاماً صريعاً، إثر قيام شرطي أبيض بفتح النار عليه. وفي تسجيل مرئي التقطته صديقته كاستيل، التي كانت بصحبته في السيارة، ظهر الأخير وهو مضرج بالدماء، يتلوّى من الألم، فيما ظلّ الشرطي موجّهاً مسدسه إليه، ويتحدث بعصبية محاولاً إبعاد وجهه عن الكاميرا التي كانت تحملها الفتاة. ومع مقتل فيلاندو كاستيل في مينيسوتا الأميركية، يرتفع عدد الأميركيين من أصول أفريقية الذين سقطوا بيد الشرطة خلال عام 2016 إلى مئة وستة وثلاثين شخصاً.

من ناحية أخرى، فإنّ واحدة من القضايا الأكثر خطورة داخل المجتمعات الأميركية هي الفقر. فالفقر في حدّ ذاته عبارة عن مشكلة ذات صلة أكيدة بالمشاكل الصحية، وتدنّي التحصيل العلمي، والعجز في الأداء النفسي، والجريمة. فقد تبيّن أنّ 35 من الأسر الأميركية الأفريقية يعيشون تحت مستوى الفقر، خصوصاً في ولايات أيوا ومين ومسيسيبي وويسكونسن. كما أنّ الأميركيين الأفارقة لا يزالون يعانون من التهميش في المجالات التعليمية والاقتصادية والاجتماعية.

وأخيراً، يمكن القول بأننا نشهد بداية انهيار دولة «الويلات الأميركية»، وإنْ كانت الأحداث اليوم في بدايتها، فالصراع بين البيض والسود مرشّح للبروز والتطوّر في أيّ لحظة لأنّ عوامله لا تزال قائمة، ولهذا صدرت في أميركا مؤخراً عشرات الكتب التي تتحدّث عن انهيار الإمبراطورية الأميركية أبرزها كتاب «حدود القوة»، ونهاية الاستثنائية الأميركية، الذي كتبه آندرو باسيفتش أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة بوسطن، وكتاب حرب الثلاثة تريليون دولار، للمؤلف جوزيف ستيغلتز الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد العام 2000، وليندا بيلمز أستاذة السياسة العامة في جامعة هارفارد. ويبقى أن نشير إلى التحذير الذي أطلقه الخبير الاقتصادي الأميركي نيال فيرغسون الأستاذ في جامعة هارفارد وكاتب المقال الأسبوعي الشهير في صحيفة «لوس أنجيلوس تايمز»، حيث أكد أنّ الانهيار المفاجئ للإمبراطورية الأميركية خلال أعوام قليلة، لا سيما بعدما بلغ دينها العام 19 ألف مليار دولار. أيّ أنّ أفكار برنارد لويس وبوش حول التقسيم والتفتيت في الشرق الأوسط قد زحفت بسرعة لتصيب العديد من الولايات الأميركية، والتي لم تعد بمنأى عن التعرّض للتهديد ذاته. وستنهار أميركا عاجلاً أم آجلاً، وستطوى صفحتها بسبب الاستعباد والإرهاب الذي تمارسه على المستضعفين من مواطنيها ومن شعوب العالم.

محام، نائب رئيس

الصندوق الوطني للمهجرين سابقاً

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى