المؤتمر الاقتصادي الاغترابي «العدس بترابو وكلّ شي بحسابو»
علي بدر الدين
رزمة من المواقف والعناوين الوطنية والسياسية والاغترابية أطلقها رئيس مجلس النواب نبيه بري في كلمته خلال مؤتمر الاقتصاد الاغترابي الثاني، بحضور شخصيات سياسية وحزبية ونقابية وديبلوماسية تساوى عددها مع عدد المغتربين أو تجاوزه بقليل.
وقد شكلت رعاية الرئيس بري المؤتمر وحضوره شخصياً عامل جذب للمشاركين، وهذا ما كانت تفتقده مؤتمرات اغترابية مماثلة.
اللافت كان غياب ممثل عن وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل إذ تزامن المؤتمر مع جلسة لمجلس الوزراء ، ما أثار فضول البعض لمعرفة أسباب ودوافع هذا الغياب الذي لم يكن متوقعاً، لا سيما أنّه كان قد أكد حضوره بعد أن تسلّم الدعوة، وهو الذي كان حاضراً ومتكلماً في مؤتمر العام الماضي، إضافة إلى أنّ لقاء ثنائياً جمعه إلى الرئيس بري الأسبوع الماضي ووضعت خلاله أسسٌ لتعاون وتفاهم مشتركين في قطاعي النفط والغاز، وبذلك أنهيا قطيعة بلغت حدود السنتين.
برع الرئيس بري وأبدع كالعادة في كلمته المطولة وفي توجيه الرسائل إلى مَن يعنيهم الأمر، وقطع خلالها الشك باليقين محدداً سقف التعاطي مع القضايا الداخلية، السياسية والدستورية والوطنية، ومن أهمها تأكيد ضرورة وأهمية اتفاق الطائف، وأن لا مؤتمر تأسيسي ونقطة على السطر.
أما كلمته عن الاغتراب والمغتربين فكانت مفصّلة وشاملة وواضحة في مقاربة التعاطي مع الجناح المغترب، فرسم خريطة طريق طويلة وشاقة للمسار الاغترابي الذي يجب سلوكه من خلال مبادرات اغترابية جدية، وبأموال المغتربين وطاقاتهم وتجاربهم الناجحة في عالم الاقتصاد، من دون الاعتماد على أية جهة رسمية، أو انتظار سياسة اغترابية للدولة لأنها لن تبصر النور، اللهم إلا إذا استثنينا التغني اللبناني الرسمي التاريخي بالاغتراب والمغتربين عن بُعد وتذكيرهم الدائم «بالكبّة النيّة» و»التبولة» وما استجد من شهرة الحمص و»نيال مين إلو مرقد عنزة بلبنان» أو بأغنية الفنان الراحل وديع الصافي «لبنان يا قطعة سما».
نعلم أنّ الرئيس بري كان مغترباً وقلبه على الاغتراب، وهو يدرك مكامن قوة الاغتراب وضعفه وحاجة لبنان إليه ماضياً وحاضراً ومستقبلاً وأنه تُرك وحيداً، حيث يعاني المغتربون من الضغوط والاستهدافات ومن الحملات الإعلامية والسياسية الصهيونية المسعورة وتحديداً في القارة الأفريقية وبعض دول أميركا الجنوبية وتتوسّع دائرتها لتطال أي مغترب لبناني ناجح في هذا العالم. ودفع المغتربون جراء هذه الحملات أثماناً باهظة في الأرواح والممتلكات، في ظلّ اضطرابات وانقلابات وحروب قبلية تتشظى منها الجاليات اللبنانية، فضلاً عن مئات الضحايا الذين سقطوا في الكوارث الجوية، فكانت الدولة في لبنان غائبة أو مُربَكة، حيال ما يتعرّضون له، عاجزة عن مواكبتهم وحماية مصالحهم مع أنها تفرد لهم صفحات في كلّ قسم رئاسي أو بيان وزاري أو موسم سياحي.
لن نخوض في حجم التحويلات المالية للمغتربين إلى لبنان التي ترتفع وتنخفض، وفق الأزمات المالية والاقتصادية التي تعصف بالعالم، وهي تتراوح ما بين 6 و8 مليارات دولار سنوياً. كما لن نخوض في مدى مساهماتهم في عمليات البناء والإعمار والإنماء في لبنان أو أفريقيا أو دول الخليج العربي، لأنّ ذلك بات موثقاً ومعروفاً ومشهوداً لهم فيه.
ما يعني المغتربين كيف يُمكن أن تترجم مبادرات الرئيس بري الإيجابية تجاه الاغتراب، ومَن هي الجهة المخوّلة بالمتابعة. الدولة أم المؤسسات الاغترابية أم المؤتمرات الاغترابية التي بدأت تتكاثر كالفطر وينتهي مفعولها مع انتهائها، أو مَن هي الجهة القادرة على توحيد الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم بعد أن فشلت الدولة أكثر من مرة وأخفقت لجانها الوزارية في جمع شمل تلك المؤسسة التي يُفترض أن تكون الممثلة الشرعية الوحيدة للمغتربين، ورغم هذا التمثيل تغيب دائماً عن المؤتمرات الاغترابية فلا مواقع رسمية لها ولا كلمات ولا أي صفة من صفات المراقبة والاستشارة والتنسيق وهي دائماً موضع تشكيك واتهام وتهديد بالإطاحة بها وإزالة اسمها عن الخريطة الاغترابية وقد باتت الحلقة الأضعف، رغم فخامة الاسم وشمولية الدور المفترَض.
الاغتراب الذي يفتخر به لبنانيو الصف الأول السياسي والطائفي والمذهبي والمالي ليس في حاجة إلى مؤتمرات وكرنفالات احتفالية وخطابية معروفة الأهداف والنتائج والغايات، ما يحتاج إليه أن يكون له سند رسمي قوي حاضر في المحن والشدائد، ووطن ودولة وقادة وزعماء يقدّرون قوته ونجاحه ومكانته الاقتصادية والإنتاجية والإبداعية على مساحة العالم وفي شتى الحقول والمجالات. الاغتراب القويّ في حاجة إلى دولة أم قوية وإلى مؤسسات وطنية متماسكة وفاعلة وإلى سفراء يمثلون وطنهم ولا يتعاطون بفوقية مع المغتربين. الاغتراب يزداد قوة وتأثيراً ونجاحاً، بوضع حدّ للانقسام السياسي الطائفي المذهبي داخل وطنه، وباستئصال الفساد المستشري في مفاصل الإدارات والمؤسسات وباتفاق المسؤولين على إنجاز الاستحقاقات الدستورية بصدقية وشفافية، وعلى رأسها انتخاب رئيس الجمهورية، والاتفاق على قانون انتخاب يراعي التمثيل الوطني الصحيح لكلّ الشرائح على اختلافها وتنوّعها. الاغتراب يريد وطناً قوياً بوحدة أبنائه وليس بضعفهم، ويريد وقف الصراع على المصالح وإلهاء اللبنانيين المقيمين بسجالات سياسية وإعلامية ومصلحية لا ناقة لهم فيها ولا جمل ولا منفعة. فكيف نطلب من المغتربين التماسك والتضامن والعودة إلى الوطن والاستثمار فيه بأموالهم وجنى عمرهم وهو يعاني من حكّامه الذين لا يتّفقون إلا على مصالحهم وتوزيع الثروات على المقرّبين والأزلام والمحاسيب وكلّ مَن يمت إليهم بصلة رحم أو قرابة أو مكسب؟ كيف لهذا الاغتراب أن ينتظم ويتوحّد ويطوي صفحات الخلافات والانقسامات وهو انعكاس للواقع المفكّك الغارق في وحول السياسات الخاطئة والدوائر الطائفية والمذهبية الضيقة، حيث لا أولويات للطبقة السياسية سوى مصالحها ولا لغة مشتركة تجمعها سوى الجشع والنهم والسيطرة والسلطة والنفوذ.
كيف يمكن للمال الاغترابي أن يُوظَّف في وطن لا يحترم المقيمين والمغتربين من أبنائه ولا يؤمّن لهم ما يحفظ حقوقهم ويصون أموالهم؟ وبلسان الذين تحدثوا في المؤتمر أي بلد هذا وعطلته القضائية تستمر ثلاثة أشهر والبنى التحتية فيه معدومة وهو يقع في آخر لائحة الدول المتخلّفة في هذا القطاع، ومن أصل 15 مليون لبناني في العالم أو متحدّر من أصل لبناني لا يستفيد إلا حوالى 5 في المئة من مجموع هؤلاء. إنّ التحويلات المالية الاغترابية لا توظف في المصانع والمعامل ولا في القطاع الزراعي أو الصناعي أو بقية القطاعات الإنتاجية بل إنّ معظمها سيستثمر في قطاع البناء أو شراء الأراضي أو توضع في المصارف وبعضها نفقات لعائلات المهاجرين.
هذا قليل من كثير من المعاناة الاغترابية التي لن تنتهي في ظلّ سياسة اغترابية رسمية غير واضحة وغير موجودة، ولكنّ الأمل يبقى قائماً و»ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل».
وفي الختام، لا يمكن إطلاق صفة المؤتمر الاقتصادي الاغترابي على اللقاء الموسّع في فندق «موفمبيك»، بل يمكن وصفه بالاحتفال الخطابي أو بأنه ندوة لمجموعة من الاقتصاديين والمصرفيين والمؤسّسات المتعاونة لأنّ للمؤتمر مواصفات وشروطاً ونقاشات ومقررات وتوصيات ومساحات واسعة للمغتربين لجهة الكلام والإعلام والمشورة وإبداء الرأي وهذا ما افتقده ما يُسمّى بالمؤتمر، فضلاً عن عدم وجود جداول بالمغتربين المشاركين وبأسمائهم وأعمالهم والدول التي يقيمون فيها، كما افتقر المؤتمر إلى تشكيل لجان للمتابعة والتنسيق وتنفيذ ما اتُّفق عليه ومن المهم السؤال عن المؤتمر الأول، وعن إنجازاته: هل قدم شيئاً للمغتربين وللوطن، أم أنّ الهدف منه مجرد مصلحة آنية تتطعّم بتقديم دروع لشخصيات اغترابية بالتقسيط وقد تمّ اختيارها بدقة، وفق التقسيم الطائفي والمذهبي؟
وهنا يصحّ المثل الشعبي: «العدس بترابو وكل شي بحسابو».