تركيا ما بعد محاولة الانقلاب…
جمال محسن العفلق
كاد أن يتحقق زلزال سياسي في المنطقة لو أنّ الانقلاب نجح وتمّ عزل أردوغان، ولكن ولأسباب ما زالت مجهولة فشل الانقلاب، فكلّ المؤشرات تدلّ على تدخل دولي كبير عطل نجاح الانقلاب وهناك معلومات صحافية تكاد تكون مؤكدة تتحدث عن تعطيل لأنظمة طائرات «اف 16» أميركية الصنع، كما أنّ ما جرى في الداخل التركي يوحي بأنّ أردوغان كان على علم بهذا الانقلاب وإنّ إطلاق التكبيرات في عموم مساجد تركيا كان بمثابة شيفرة لجمع أتباع حزب العدالة والتنمية، فوصول القوات العسكرية إلى المطار يعني السيطرة عليه وتعطيل أنظمة الملاحة، ولكن ما جرى أنه وبمجرد وصول المدنيين فتح المطار ولو جزئياً في انتظار طائرة أردوغان، ولا يمكننا الوقوف على حقيقة ما جرى ولكن المؤكد أنّ هناك تقاطعات كثيرة واسئلة ستبقى معلقة، قد تكشف عن طريق من شاركوا في الانقلاب أو عن طريق الذين افشلوا هذا الانقلاب.
والواضح أنّ أردوغان خرج بمجموعة كبيرة من النتائج، بدأت بتصفية واعتقال آلاف الضباط من أعلى الرتب العسكرية وصولاً إلى طلاب ضباط ما زالوا يتلقون العلوم العسكرية، كما اتخذت إجراءات بحق القضاة من المحكمة العليا إلى القضاة العاديين في عموم تركيا، وهذا سيعطي لاردوغان فرصة تصفية كافة خصومة السياسيين بمن فيهم من هم في حزبه. فالقضية ليست تطهيراً بل هي عملية تدجين وترويض للخصوم حيث سيكون من الصعب على أحد من المعارضة على الأقلّ في هذه المرحلة، وإلا ستكون التهمة جاهزة إنّ المعارضين مع محاولة الانقلاب.
هذه هي المكاسب المؤقتة التي حققها أردوغان اليوم، ولكن على المدى البعيد سيجد نفسه محاصر بالمعارضين من الجيش ومن الأحزاب الأخرى، فصورة تركية العلمانية لم تعد موجودة. والواضح أنّ اردوغان يريدها بلداً إسلامياً بالمطلق ليصل في ما بعد إلى لقب الخليفة الذي طالما حلم به وتحدث عنه انصاره ومؤيدوه.
وتركيا اليوم ستكون مجبرة على قبول سياسة أردوغان بدعم الجماعات الإرهابية، وهذا بحدّ ذاته سيكون خنجراً في الخاصرة التركية التي ستشهد قريباً صراعاً بين «الاسلام المعتدل» و»الاسلام المتشدّد» الذي يموّله ويدعمه أردوغان عبر التعاون مع داعش والنصرة وجماعة نورالدين زنكي في سورية، فهذه الجماعات تعمل في فلك مدرسة القاعدة التي تفرخ الجماعات الإرهابية.
وتركيا اليوم ليست أقوى بعد فشل الانقلاب هي بالحقيقة دخلت مرحلة جديدة من العنف، الذي سيبدأ بالسياسة وفي النهاية سيصل إلى الشارع، فعدد ثلاثة آلاف ضابط ليس بالعدد القليل ليقول عنهم أردوغان إنهم مجموعة صغيرة، ومسرحية اتهام الولايات المتحدة بأنها دولة معادية كونها تحمي خصم اردوغان فتح الله غولن المقيم في أميركا هي عملية استعراض لرجل أجبر على التواصل مع انصاره من مكان مجهول عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فتركيا اليوم تحت المطرقة الغربية ولن يكون هناك أيّ فرصة للأتراك في التحدث مع أوروبا أو أميركا بالندية والقوة التي يحاول الإعلام تصويرها. وقريباً سنجد تركيا تنقلب على هذه التصريحات وتتحدّث عن علاقات مميّزة مع أميركا.
فالصور التي انتشرت والتي كان لأنصار حزب العدالة والتنمية فيها نصيب كبير، حيث كانوا يمارسون دور الدواعش في تعذيب الجنود الأتراك المستسلمين يمثل صورة تركيا المستقبل، فالتطبيق الديمقراطي بالنسبة لمثل هذه الأحزاب هو إقصاء الآخر لا الحوار معه. وإذا ما نجح أردوغان في طرح إعادة تفعيل عقوبة الإعدام في تركيا للسياسيين، فهذا يعني أنّ تركيا ستشهد دموية تذكر الشعب التركي بعهود السلاطين العثمانيين، حيث كانت تتمّ الاغتيالات وعمليات القتل على الشبهة لا اليقين.
إنّ تركيا الغارقة اليوم في بحر من المشاكل الداخلية والاقليمية والدولية في طريقها إلى انقسام كبير، وهذا ليس نتيجة تدخل دولي فيها إنما نتيجة طبيعية لسياسة حزب العدالة والتنمية صاحب عبارة «صفر مشاكل»، هذا الحزب المؤسَّس على نهج جماعة الإخوان المسلمين والتي لا تعترف بالآخر حتى لو كان اسلامياً، فما يقوم به أردوغان يرشح تركيا إلى دولة فاشلة محاطة بمجوعات إرهابية تتبادل معها المصالح، وتخدم بقاء حزب العدالة والتنمية الذي يقود تركيا نحو الاستبداد العثماني، فهل سيكون العالم قادراً على قبول مثل هذه الدولة؟ وهل ستكون اميركا قادرة على تحمّل دولة أخرى؟؟ تمارس الاستبداد وملف حقوق الانسان لديها ملطخ بدماء الناس؟ إنّ وصول الإرهاب إلى الغرب سيجبر الدول الغربية على الاعتراف بحقيقة واحدة، أنهم يدعمون الدول الصانعة للإرهاب وتركيا أحدى هذه الدول.
فمشاكل تركيا لم تبدأ بعد رغم وجود ملفات كبيرة، مثل مذابح الأرمن وحقوق الأقليات والصراع الدامي مع الأكراد وعبور الجماعات الإرهابية إلى كلّ من سورية والعراق، بالإضافة إلى وجود مدبّري العمليات الإرهابية التي تنفذ في سورية في فنادق أنقرة، وتحت حماية المخابرات التركية. وتحوّل تركيا إلى بلد عبور وعبور معاكس لمنفذي الهجمات الإرهابية في أوروبا، كلّ هذه الملفات المعلقة اليوم بالإضافة إلى ما يحدث من عمليات إقصاء وتصفية داخلية سيكون على أردوغان مواجهتها، كما سيكون على الغرب وأميركا تحمّل ضريبة حماية أردوغان فهو يعمل وفق أجندة تقديم الخدمات للحصول على تسهيلات فهل سيكون الرأي العام الغربي قادراً على قبول مثل هذه المعادلة؟ الجواب الأكيد أنّ الغرب لن يستطيع تحمّل هذا الفشل، وأنّ عملية إرهابية جديدة يكون منفذها قادم من مطار اسطنبول ستكون كفيلة بقلب الطاولة من جديد على تركيا وليس على أردوغان وحده…