مَنْ يقف في وجه السلطان الهائج…؟
سعد الله الخليل
سواء كان الانقلاب التركي «الفاشل» في الشكل حركة عسكرية لإزاحة الرئيس رجب طيب أردوغان من السلطة، وتصحيحية لمسار السياسات التركية في السنوات الأخيرة، أو سيناريو متسرّع لمسرحية أردوغانية بهدف إيجاد مخارج سياسية عسكرية جماهيرية للمشاكل الداخلية التي تعصف بالمشهد التركي، فقد أتت أكُلها من حيث هزّ الصورة النمطية للسلطنة العثمانية الحديثة التي دأب أردوغان على رسمها منذ وصوله إلى السلطة، والتي توحي بأنّ تركيا بلد المؤسسات والتي تُحترم فيها القوانين والأنظمة من الكبير قبل الصغير، وتؤمن بتداول السلطة وإنْ كانت الانتخابات لا توصل إلا «العدالة والتنمية» إلى سدة الحكم، وهو ما انهار أمام مشهد الانقلاب، بغضّ النظر عن الأسباب والدوافع والجهات التي هيأت، وخططت لتبدو بنية السلطة الأردوغانية على حقيقتها والمبنية على رمال لا أساس لها.
ماذا لو كان الانقلاب حقيقياً؟ وأيّ خطر حقيقي حمله على بنية سلطة أردوغان؟ أسئلة تضاف إليها عشرات الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن ولا يمكن التنصّل منها، عن حقيقة تفرّد الجيش التركي بالقرار العسكري للبلاد بعيداً عن سلطة أردوغان، الذي دأب خلال السنوات الماضية على حملات تطهير وتطويع للمؤسسة العسكرية في سياق جرّها إلى بيت الطاعة، شأنها شأن باقي المؤسسات الحكومية، فما واجهه الجيش من ملاحقات لقياداته ضمن قضايا أبرزها التي اشتهرت باسم «الكيان الموازي»، وما نجم عنها من سوْق جنرلات للمحاكم والسجون عقب طردهم من الخدمة، والتي اعتقد أردوغان حينها سيطرته المطلقة على المؤسسة العسكرية، كسيطرته على السلطة التشريعية بسوْق النواب المعارضين لسياساته ورؤيته إلى المحاكم، ونفس السلوك تعاطى مع السلطة القضائية والإعلامية برفع عشرات الآلاف من الدعاوى بحق الإعلاميين والناشطين، وليأتي الانقلاب كاختيار يثبت فشل أردوغان رغم كلّ ممارساته بتطويع العسكر، وليّ ذراع مؤسّستهم واستحالة القدرة على الحفاظ على نقاء ولائها لرؤية الحاكم بأمر الأتراك والأمة السلطان الأوحد رجب طيب أردوغان.
في الرؤية المقابلة والتي ترى بافتعال أردوغان للانقلاب تطبيقاً لرؤية نيكولا ميكيافيلي، بأنّ التاريخ يسجل الغايات ولا يتطرّق للوسائل ووفق نصيحته الأبرز للساعين لإبراز قوتهم أمام الجميع والراغبين بالقضاء على معارضيهم، بضرورة خلق انقلاب والقضاء عليه، وهو ما بدا واضحاً بتعاطي أردوغان مع الانقلاب فبدت مخرجات الانقلاب كما لو أنّ أردوغان افتعل الانقلاب بغضّ النظر عن حقيقة من أطلق شرارة الانقلاب، وهو ما ستكشفه قادمات الأيام، فلو أثبتت صحة تورّط السلطان بحركة بهلوانية لتثبيت ركائز حكمه، فإنّ في ذلك إثباتاً للرؤية القاصرة للإخوان المسلمين اتجاه الحكم، وأبرز قواعدها بالاستعداد للتفريط بأغلى ما تملك الدولة في سبيل مكاسب تكتيكية بسيطة، فمن المعروف أنّ نتائج أيّ انقلاب عسكري لا تضاهي مكاسب سياسية ضيقة، كونها تعرّض الجيش للانقسام وتضرّ بهيبته التي يبنيها بصورة تراكمية، وحين يضطر الجنرلات للعب تلك الورقة فإنّ مبرّراتها درء خطر كبير، فما المخاطر التي استشعر أردوغان بقربها غير اهتزاز عرش سلطنته والحاجة لعودته إلى واجهة الحدث، وهو ما يبرّر ربما أسلوب تعاطي أردوغان مع الانقلاب بالضرب من حديد، بدءاً من حملة الاعتقالات التي شملت ستة آلاف تركي خلال ست وثلاثين ساعة لكبار ضباط الجيش ورموز في السلك القضائي، ولم يسلم منها كبير المساعدين العسكريين للرئيس أردوغان علي يازجي، إلى دعوة أنصاره للنزول إلى الشارع وجرعات الشحن التي مارسها ضدّ الجيش والتي دفعت عدد منهم إلى ممارسات «داعشية»، من ذبح الجنود وسحلهم مروراً بمقتل أكثر من 290 تركي باعتراف الخارجية التركية، وغيرها من السلوكيات كإسقاط الطائرات المشاركة في الانقلاب، كلّ ذلك خلال أقلّ من 24 ساعة، ما استدعى مواقف دولية شاجبة من حلفاء أردوغان، أبرزها وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت الذي قال إنّ ما جرى لا يمنح أردوغان شيكاً على بياض لممارسات التطهير لصالحه.
في المواقف الدولية ربما نجح أردوغان باستقطاب تصريحات تشدّد على شرعيته عبر الانقلاب، إلا أنّ تلك المواقف وإنْ صبّت في صالحه إلا أنها كانت بمثابة سندات لاحقة التحصيل، فالمواقف الروسية والإيرانية الداعمة لسلطة الانتخابات التركية كخيارات شعبية، تفرض على أردوغان الاعتراف بالانتخابات كحكم وحيد لأيّ سلطة في تركيا وخارجها، وفي هذا السياق أتى تصريح مستشار وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان شديد الوضوح بالتأكيد بأنّ أردوغان والرئيس بشار الأسد رئيسان شرعيان لتركيا وسورية بحكم الانتخابات، وبالتالي فإنّ تلك المواقف ترتب على السلطان الجديد إعادة ترتيب أوراقه.
ربما فشل الانقلاب بإزاحة أردوغان عن الحكم إلا أنّ الثابت أنّ الخطوة عمّقت المأزق التركي، وأثارت جماح أردوغان اتجاه خصومه بما يهزّ من حضوره في الداخل والخارج التركي، سلوك لا يمكن لأقرب حلفائه التغاضي عنه، فهل باستطاعتها إيقاف السلطان الهائج؟