الإنسان الضعيف تُسْكِره النجوميّة… أصدقاء قصيدتي هم عزائي الوحيد
عام 2000 حاور طلعت سقيرق الشاعر الكبير الراحل سميح القاسم، وهنا وقائع الحوار:
بعيداً عن المقدمات المعروفة، أدخل مباشرة صلب الموضوع: كيف ينظر سميح القاسم إلى مسيرة شعره؟ ليتك تستحضر الناقد لديك؟
ـ يجوز القول إن الشاعر هو أفضل ناقد لنتاجه، وهو أسوأ ناقد لنتاجه في الوقت نفسه. أميل إلى إعفائي من الحالتين. لكن استجابة لإلحاح سؤال كهذا أستطيع القول أو التحدث عن الأمور العائمة على السطح، كتحول القصيدة من الإيقاعات الحادة والألوان الزاهية والقوية في مرحلة الصبا والشباب، إلى حالة التداخل الإيقاعي والتداخل اللوني. خفوت الصوت بعض الشيء واقتحام ألوان الشك لمواقع اليقينية المطلقة التي تميز روح الشباب. لكن يبقى هناك الخط السري الذي يصل بين القصائد الأولى والقصائد الجديدة من دون شك. بكلمات أخرى، تتفاوت أدوات التعبير بتفاوت الزمن والتجربة وتراكم معرفي ووجداني هو من طبيعة الحياة. ويبقى الهاجس الأساسي، هاجس الحرية والعدل الإنساني، بحيث يشتبك السياسي بالوجداني بالمجرد بالمطلق، والشك باليقين. هذه سمة تجربتي بخطوط عريضة بين الأمس واليوم.
تأخذني هنا للسؤال عن النقد والنقاد. كثيرون تناولوا شعرك ودُرست تجربتك الشعرية بغزارة. هل وصل النقاد إلى العمق؟ ماذا أخذت من هذا النقد، ما رأيك فيه؟
ـ هناك نقاد ساعدوني في معرفة ذاتي من دون شك، وأعني النقاد الذين لم يقتصر نقدهم على المعنى، ولا على الخطوط العريضة في الشكل، بل تعمقوا في هذه التجربة واستشفّوا أموراً تتصل بالذات، بالسايكولوجي، باللغة. على سبيل المثال فوجئت بدراسة كبيرة من ناقدة وباحثة أميركية هي الأستاذة تيري دي يونك التي كتبت دراسة عميقة ومهمة عنوانها «سميح القاسم وتحديث الجناس» إذ نظرت في تحديث الجناس العربي في قصيدتي، وبهذا لفتت نظري إلى مسألة كنت أعيشها من دون أن أنتبه إليها، وهي مسألة المحاولة المستمرة لتكوين حداثة على أسس تراثية أصيلة، حداثة لا تتنكر للماضي، ولا تتقزم أمام حداثة الآخر الغربي أو الأجنبي، لكن تكون ذاتها من خلال التجربة في سياق عملية الكتابة وبالرجوع بقدر كبير من الحب والحنين إلى مقوّمات فنية متوافرة في تراثنا على نحو ملحوظ.
في شعرك دراما. لنقل هناك إصرار على محاورة الذات الخارجة على الذات الشاعرة، أي ذات المتلقي. هذا يشدّ السامع أو القارئ؟
ـ آمنتُ دائماً بأن الدراما هي عنصر جوهري وأساسي في العمل الشعري، وقد يعود ذلك إلى بدايات ثقافتي الشعرية. قد يعود ذلك مثلاً إلى مغني الربابة الذي سمعته في بيت جدي، وتتبّعت أداءه عبر وجوه الحضور. أيضاً أحب المسرح، وقد كتبت المسرح من وقت إلى آخر. فمن الطبيعي أن يكون العنصر الدرامي قائماً، وهي مسألة أشار إليها معظم النقاد الذين كتبوا عن تجربتي. بلى، إنه شديد الحضور في قصيدتي. والعنصر الدرامي حتى في صيغة المونولوج يفترض الآخر ويستدعيه.
ألاحظ أن قارئك ومستمع شعرك يعيش فسحة الشعور بأنه كاتب القصيدة، مشارك في صوغها، كأنّ القصية تنبع منه هو: ألا تطرح هذه النقطة تساؤلاً؟
ـ أنا معك في ذلك. هنا تدخل نظرية التقمص، وهي نظرية تنبع بلا شك من خلال تراث الموحّدين، وقد كان لي أن نشأت في بيئة مدهشة في تنوّعها وتعدديتها. نشأت بين جد فقيه علامة في شؤون الدين، وجد علماني حداثي بشكل متطرف. في الحقيقة في طفولتي عايشت مناخات وأجواء متعددة ومدهشة في رحابتها وفي ثرائها، وانعكس ذلك أيضاً في تجربتي. ساعدني بعض النقاد في رؤية أنني أفيد كثيراً من الرموز الدينية القرآنية والتوحيدية والمسيحية وحتى من البودية ومن ديانات قبائل الإنكا. قصيدتي لا تستطيع بالطبع أن تكون إلاّ علمانية مثل صاحبها، لكن لم تجد هذه القصيدة غضاضة في وجود هذا التداخل، هذا التنوع الجميل في رأيي بين القرآن الكريم وأبي ذر الغفاري وكارل ماركس وابن خلدون. جمعت ما يبدو مجموعة من التناقضات، لكن هذه التناقضات وجدت صيغة من التناغم، من التعايش، من خلال تجربتي.
ثمّة شعراء يتحولون إلى رمز، أنت واحد منهم.
ـ لا يتحول الشاعر إلى رمز إلاّ من خلال قصيدته. في الحقيقة، الشاعر يفيد من «قصيدته» في ذلك. الحضور الأساسيّ للقصيدة وليس للشاعر.
ربما أشير هنا إلى هذا التواصل والتماهي الحميم بينك وبين الجمهور.
ـ أنا سعيد بهذا التواصل الحميم بين قصيدتي والجمهور. هذه المشاركة تنجم أيضاً عمّا يجوز تسميته بالتماهي بين ذاتي وذات الآخر. هناك شيء من التماهي لم أخطّط له. لكن يبدو من ردود الفعل على هذه القصيدة أن هناك تماهياً إنسانياً ووجدانياً وفكرياً أيضاً بيني وبين عدد كبير من الناس.
في سنوات مضت اعتبرت غزيراً في إنتاجك، ثم بدأت في الإقلال والتأنّي. ما هو في رأيك سبب التحوّل إلى الإقلال؟
ـ أعتقد أن هناك خطأ بصرياً في الشطر الأول من عمري. ربما كنت أكتب القصائد بالمقاييس العادية وبتوهج الشباب. كل قضية تصادفني تتفجر من خلال قصيدة. بمرور الزمن تصوّرت لدي صيغة السربية أو المطولة حيث ظهرت سربيتي الأولى «إرم»، لكن لم أعتمدها شكلاً أساسياً إلاّ في العقدين الأخيرين. هذا الشكل من المطوّلات الشعرية السربيات التي تقوم على التداعي ولا تقوم على وحدة الشكل تقوم على تعددية الحالات واللمحات والإيقاعات والأشكال، لكن ينتظمها هاجس واحد أساسي من بدايتها حتى نهايتها مع تشعبات واستطرادات كثيرة في الشكل وفي المضمون وفي الصور. هذا هو الشكل الذي أسميته بالسربية والذي كما يبدو استراح له عدد من الشعراء، من أصدقائي الشعراء، وبينهم شعراء كبار تبنّوا هذا الشكل وكتبوا به. لذلك أصبحت عناويني أقل غزارة. لكن العمل الشعري حافظ أو ربما صعد من وتيرته.
الانتفاضة كتبها سميح القاسم بتميز. ما هو أثرها في أدبك عامة وفي أدبنا الفلسطيني بكامله؟
ـ نقاد كثيرون بحثوا عن إرهاصات الانتفاضة في قصائدنا، في الشعر العربي الفلسطيني، وألمحوا إلى مقاطع وإلى أبيات وإلى قصائد كأنّما بشرت بالانتفاضة وحرّضت عليها، وهذا اقتراح مشروع ومبرّر عند الناقد. لكن الانتفاضة الأولى لم أكن مراقباً فيها، بل أتيح لي أن أشارك في بعض فعالياتها. لذلك كانت قصيدة «رسالة إلى غزاة لا يقرؤون» من قلب الحدث وعرفت بشكل واسع.
أعتقد أنها قصيدة الانتفاضة وأول قصيدة عنها.
ـ كانت أول عمل شعري متكامل كتب في قلب الانتفاضة وبدأت إيقاعاته على إيقاع قنابل الغاز والرصاص المطاطي والشظايا التي كانت تتطاير حولي في القدس. إيقاعاتها بدأت هناك. أخذت إيقاع الشارع وإيقاع التظاهرة ورائحة الغاز المسيل للدموع التي دخلت رئتي. كأنّما هذه الأمور كلها كتبت نفسها في هذه القصيدة. رغم البساطة الظاهرية والمباشرة الفنية الموجودة فيها بلا شك.
إنّها من نوع الشعر الذي نطلق عليه تسمية السهل الممتنع.
ـ قد تكون تسمية السهل الممتنع هي التسمية الأدق، بلى، بحيث يعتقد كل قارئ أنه يستطيع أن يكتبها، لكني اكتشفت أنا شخصياً أنني لا أستطيع أن أكتبها مرة أخرى. لا أستطيع أن أكتب مثلها مرة أخرى. هذه القصيدة لم تكن من خارج الانتفاضة، بل كانت من داخلها، وكانت إيقاعها وكانت لحمها وكانت دمها، لذلك بقيت وترددت كثيراً. هي قصيدة الانتفاضة بالفعل. في كل أمسية شعرية أطالب بقراءتها، أحياناً أشعر بضيق، أريد أن أقرأ شيئاً جديداً مختلفاً، ويصرّ الجمهور على قراءتها. أحيانً أدعي أنها ليست معي لأتهرّب.
لكن لا تنسَ أن الجمهور بات يحفظها، فهو يردّد معك ما تقرأ حين تفعل.
ـ بلى، حين أقرأ هذه القصيدة يردّدون معي. نعود إلى شعر الانتفاضة عامة. ليس بالضرورة أن كل ما يكتب عن الانتفاضة شعر جيد، وليس بالضرورة أن يكون الموضوع العادل والجميل والجيد كافياً لتبرير قصيدة. هناك قصائد جيدة كتبت عن الانتفاضة، وهناك قصائد رديئة كتبت عن الانتفاضة. تحوّلت الانتفاضة إلى هاجس ليس في الشعر الفلسطيني فحسب، بل في الشعر العربي كلّه، لأنها تحوّلت من حدث سياسيّ إلى همّ قوميّ ووطنيّ وإنسانيّ. فوجئت في بلجيكا بشاعر يقرأ لي قصيدة عن الانتفاضة باللغة الفرنسية. فوجئت في ألمانيا بشاعر ألمانيّ يقرأ لي قصيدة عن الانتفاضة بالألمانية. فوجئت في أكثر من بلد أجنبيّ بشعراء وشاعرات كتبوا قصائد بعنوان «انتفاضة» لفظ الكلمة بالعربية وبحروف أجنبية.
قد أقف هنا عند نوع من الأدب «الإسرائيلي» الذي كتب عن الانتفاضة، ماذا نقول عن هذا الأدب أو هذا النوع؟
ـ ليس لديّ قدر كاف من العنصرية بحيث أنفي الصدق عن كل ما كتب. قد يكون هناك شاعر عبريّ شعر فعلاً بالإهانة من تصرّفات دولته وجيشه وشرطته واستفزّ وكتب قصيدة صادقة. قد يكون ذلك. لكن عامة، تظل الكتابة العبرية في معظمها نوعاً من تبرئة الذمّة، تسجيل موقف، ولم يزل هناك وقت حتى يتحوّل الإنسان الفلسطيني والإنسان العربي إلى هم حقيقي أو إلى نقطة قلق عند الكاتب «الإسرائيلي». ما زال يكتب بفكره وبآرائه وأشك في أن يكون الإنسان العربي قد تحول إلى همّ وجوديّ لدى الكاتب العبريّ.
قيل الكثير عن الأدب المقاوم. لن أدخل في التوصيفات الجاهزة. لكن هناك من رأى بشيء من الغباء ربما أن الأدب المقاوم كلّه سيطير بنفخة عندما يحلّ السلام. أصرّ على أنّه رأي غريب. لكن أودّ هنا أن أسألك ماذا تقول عن هذا الأدب حاضراً ومستقبلاً؟
ـ لنقل لهذا الرأي الغريب أولاً: ليستردّ شعبنا حقوقه وليطر أدب المقاومة في الهواء! لم نطلب النكبة ولم نطلب النكسة ولم نطلب الكوارث لنقاومها ولنكون شعراء مقاومة. ثانياً لم نطلق على أنفسنا شعراء المقاومة أو أدباء المقاومة. التسمية أطلقت علينا من الخارج ونعتزّ بهذا اللقب، وأولئك الذين يقفون هذا الموقف من أدبنا هم محرجون، نظروا إلى نوع آخر من الأدب ولم تقدّم نظرياتهم إبداعاً استحق الحياة أو استحق الوجود. في المقابل ظهرت ظاهرة شعرية وأدبية أقبل عليها الشعب العربي والقارئ العربي وعانقها وأحبها واحتضنها وحفظها عن ظهر قلب، لذلك اعتبروا هذا الأدب كأنما هو صخرة تحطمت عليها أمواجهم وتطايرت عليها رذاذاً. أنا مع تعايش التجارب الأدبية. ليبدع كل من شاء كيف شاء. لا أضع مواصفات للشعر ولا للنثر ولا للنقد، أقول قصيدتي مثلما يقولها زملائي، بتجبربتنا، بطاقتنا الفنية، بوعينا وبوجداننا، ونتابع الحياة مثلما ينبغي أن نتابعها، لكن يبدو أن السلام والحرب معاً لا يستطيعان محو وجدان شعب وذاكرة شعب. نرجو أن تنتهي الانتفاضة إلى نصر وألا يضطر شعبنا إلى الانتفاض على الاحتلال طبعاً من خلال زوال الاحتلال. لكن أعتقد أن جمهور الشعر العربي سيحنّ دائماً إلى نماذج كثيرة من شعر الانتفاضة وسيحفظها عن ظهر قلب بمثل ما يحفظ صورة جده وجدّ جده. مضى الأجداد من العالم وما زالت صورهم في قلوبنا وفي منازلنا وفي دفاترنا وفي مكتباتنا، لذلك أعتقد أن التعامل النقدي مع هذه التجربة يجب أن يكون أرقى وأصدق وبعيداً عن العقد الذاتية والإحباطات والشعور بالقزامة أمام هذه التجربة أو تلك.
حبّك للتجديد واضح جليّ في شعرك ونثرك. ما هو مفهومك للتجديد من ناحية، وللحداثة من ناحية أخرى؟
ـ أنا بطبعي ملول. هذا ينعكس على تجربتي. لا أحب التكرار. أحب المغامرة الفنية وأمارسها على مزاجي وبكامل حريتي وأحترم حسّ الآخرين بالمغامرة الفنية. لذلك من الطبيعي أن يلتقي في تجربتي المناخ الكلاسيكي بالمناخ الحديث، السوريالية بالواقعية الاشتراكية. هذه شخصيتي في الحياة.
أنت من الأسماء القليلة جداً التي عرفت بشكل واسع النجومية. ما تأثير النجومية في شعرك وأدبك؟ ألا تشعر بأن حب الناس يحاصرك ويطالبك بالمزيد دائماً؟
ـ تسمية النجومية هي من خارجنا. أما تأثير هذه «النجومية» يصرّ على وضعها بين قوسين فربما لا شيء. لا تؤثر في القصيدة وفي السلوك الشخصي. في رأيي فقط الإنسان ضعيف الشخصية تسكره النجومية وتفقده القدرة على الاتزان. الأمر الأساسيّ لديّ هو هذا الاكتشاف الجميل لأصدقاء لقصيدتي. في كل مكان أذهب إليه هناك أصدقاء محبون أوفياء لهذه القصيدة وهذا عزائي الوحيد.