الصوت النشاز وسط الجهل والطائفية

جورج كرم

كل مهاجر يغادر أرض الأمة ليقيم أو ليعمل في البلاد البعيدة ينقل معه صورة جامدة عن حال الأمة في الزمن السياسي والاقتصادي الذي غادر فيه، ويبقى أسيراً لهذه الصورة طوال سنوات عمره المتبقية أحياناً، فيما الحياة السياسية في الأمة تتطور. وفي حال لبنان نراها تتقدم خطوة إلى الأمام حيناً وأميالاً إلى الوراء أحياناً. ولعل التطور الوحيد الملموس في لبنان منذ التسعينات إلى اليوم هو في رأس الأرغيلة الذي قد يتكوّن من نصف رأس بطيخ أو حبة شمام أو أناناس في هذه الأيام، بحسب ما شاهدت وأنا أمر في «لحظة تخلّ» قرب مقاهي داونتاون قطر-الحريري. والإنجاز في تطوير الأرغيلة ورأسها هو بلا ريب علم وفن حلّق فيه لبنان عالياً، حاملاً رايته بين الأمم، بحسب مدرسة ميشال سليمان الفكرية مثلاً.

تماهيت مع الوضع المذكور آنفاً عينه وقد تركت البلاد قبل انتهاء الحرب الأهلية في البلاد بأشهر قليلة، وكنا عانينا ما عانينا من إجرام الأحزاب الإنعزالية مثل الكتائب والأحرار و«القوات» واضطهاداً بسبب مواقف اتخذناها مثل العداء للكيان الصهيوني حليف الأحزاب الإنعزالية وراعيها آنذاك، أو اعتناق الفكر اللاطائفي الذي كان يعاقب حامله بالتهديد أو مصادرة شقة فارغة يعتاش من تأجيرها، أو بناء تمثال لـ«شهداء الكوكايين» من مرتكبي المجازر العديدة في حق الأبرياء على نحو غير شرعي فوق أرض يملكها، ناهيك عن الخطف والتعذيب على أيدي أجهزة الاستخبارات المختلفة لتلك الأحزاب المتطرفة في حقدها الطائفي لو قرر جلاد المنطقة ذلك في حق أحد الأبرياء من خصومه.

حال البلاد الجامدة في نظر المهاجر تشبه فيلماً سينمائياً توقّف دورانه في لحظة معينة، وما برح المهاجر ينظر إلى الصورة الجامدة على الشاشة بدلاً من متابعة قصة الفيلم ووقائعه اللاحقة. وفي حالتي الشخصية، كان ظلم الكتائب وأعوانهم وعمالتهم الصورة الجامدة عن وضع بلادي الماثلة في ذهني، ولم تشفني زياراتي العديدة للبلاد بعد الهجرة من ذلك، بل رحت أبحث عن أولئك الزعران القتلة خلال زياراتي للبلاد بعد انتهاء الحرب الأهلية لمواجهتهم وفضح ارتكاباتهم وحتى للإقتصاص منهم أحياناً. وذهلت بأن العديد منهم أضحوا اليوم «حلفاء» يتكلمون بتعثّر في مفهوم المشرقيّة والمقاومة، لكنهم ما فتئوا يصدحون بعنصريتهم كلّما أتوا على ذكر أهالي بلاد الشام والجنوب السوري المحتل. أما السواد الأعظم لأولئك فما انفك يجعجع من متراسه الطائفي الميليشيوي، مع الفرق أنه اليوم حليف طبقة لبنان البورجوازية من موظفي ديكتاتورية آل سعود الثيولوجية وفي كلتا الحالتين أرى أولئك أعداء سياسيين مع وقف التنفيذ العسكري، ولن أنسى المجازر والتجاوزات التي ارتكبوها، أنا الذي لم أتخط خلافات ما قبل الطائف السياسية ولم تشملني أي مصالحة بداعي السفر.

لم يتغير أصلاً الكثير في ديمغرافية البلاد السياسية منذ الطائف حتى اليوم، فبقي المقاوم مقاوماً، وبقيت المناضلة مناضلة، وإن تغير عنوان المرحلة قليلا ولون علم النضال، إذ يبقى المتقوقع متقوقعاً في كرهه للآخر حتى لو خلت جدران وسط بيروت من آثار القذائف والشظايا ونحف كلام الصالونات واختفى حرف الضاد بيرق لغتنا وفخرها وأصبحت لغة الضاد اليوم لغة «الداد» عند جماعة الساهرين الفارغين من أي كرامة وطنية والذين يبدأون سهرتهم في نقطة الالتقاء قرب «الدريح» وسط العاصمة، قبل أن يحددوا وجهة سهرتهم لتلك الليلة، وهي سهرة سيطلقون خلالها بلا شك سهام كرههم في اتجاه كل من يساهم في رفع شأن البلاد والذود عنها.

هذا الجمود كلّه في التطور الفكري لدى السواد الأكبر من شعبنا يجعل بعض أصوات النشاز ترنّ كتغريد الحسون في أذني، وكلما قرأت موقفاً داعماً لتحرير فلسطين أو معاد للسلام الذليل مع الصهاينة لأحد أبناء المناطق التي كانت تسمى بالشرقية أو الغيتو الإنعزالي وقفت عنده وتمعنت فيه ودققت في صحة صاحبه أو صاحبته العقلية، قبل أن أحتضنهم وأحاورهم مسروراً لوجودهم النادر في محيطنا، وأدقق في صحتهم العقلية، إذ كلما وجدت حلفاء فكريين أصحاء قابلين للتطور في محيطي أزلت عني أنا صفة الجنون التي يطلقها بعض خبثاء القرية على أولئك الذين يحتكمون إلى عقلهم بدلاً من الاحتكام إلى عظة خوري الكنيسة يوم الأحد المليئة بالحقد والتعصب، فكل من ينادي بالحق في قريتي يصفه بعض المتخلّفين فكرياً من الطائفيين بالمجنون، وقد أوصل أحد أبناء العم «المحبين» إلى مفاصل ثرثرة القرية أن «الجنون» الذي أصابني نتيجة مقالاتي ومواقفي ذات الاتجاه الوطني الواضح لا بد من أن يكون وراثياً من عائلة الوالدة، مزيلاً الشبهات بذلك عن صحة عائلته العقلية. ولا عجب أن يكون الموقف كذلك في قرية تباع فيها خمسون صحيفة لا أكثر وسكانها بالآلاف!

ما الحال لو كان صوت النشاز في محيط قريتي الغارقة في الجهل والطائفية هو صوت المخرجة المبدعة إيليان الراهب، من خلال مواقفها الجريئة عبر شبكات التواصل اللإاجتماعي، أو من خلال آخر فيلم لها شاهدته حديثاً عنوانه «ليال بلا نوم» وهو فيلم مر على عرضه بضعة أشهر في صالات السينما اللبنانية ولم تتسنّ لي مشاهدته في غربتي، وبالتالي غيابي عن حياة البلاد الليلية ودور السينما فيها. وقد حاولت الحصول على الفيلم بوسائل عديدة ولم أنجح في القيام بذلك قبل أن أزور الوطن هذا الصيف وأتطفل على المخرجة الجارة وأتسلم نسخة الفيلم بين كوب شراب التوت وقطعة الحلوى اللذيذة وذكريات طفولة في ضيافة عائلتها الجميلة.

يتبع جزء ثانٍ

كاتب سوريّ من جبل لبنان

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى