حكاية المقصّ والإبرة
الياس عشّي
كثيراً ما تشعر بالحيرة وأنت تستعدّ لاختيار الكلمات المناسبة لزاوية «آخر الكلام» في جريدة البناء. تتساءل: هل أتحدّث عن غزّة وثقافة المقاومة؟ أم عن قامة سميح القاسم الذي مضى مرفوع الهامة؟ أم عن العراق وما تتعرض له الأقليات من إبادة جماعية على أيدي الداعشيين؟ أم عن ليبيا الفوضى والبترول وحلم التقسيم؟ أم عن «عرسلة « لبنان، ورشى الحريري، وسقوط المؤسسات؟ أم عن سورية في حربها على الإرهاب؟ أم عن عالم عربيّ فقد إحساسه بالمسؤولية الوطنية، وباع نفسه للشيطان؟
قلت في نفسي: كلّها أمور تستدعي الكلام، و»آخر الكلام» لا يستقيم في هذا الزمن الرديء إلاّ في الحديث عن مؤامرة عظمى أدّت إلى هذا الخراب كلّه وبدأت أثناء البحث عن وسيلة تمكّن الاستعمار الغربي من الاستيلاء على تركة الإمبراطورية العثمانية بعدما دخلت، هي الملقّبة بالرجل المريض، في ما يسمّى بالموت السريري.
كانت الخطّة أن يبدأوا من سورية الطبيعية فحوّلوها إلى بؤر طائفية ومذهبية وعرقية ورسموا لها خرائط جديدة، وفرزوها إلى أقليات وأكثريّة، وطفت على السطح كيانات هزيلة وظيفتها في الأساس حماية الدولة العبرية التي وعد بها بلفور «شعب الله المختار». وبدأ ذلك كلّه باتفاقية سايكس ـ بيكو السيئة الذكر. وهذه الاتفاقية تذكرني بحكاية قرأتها تتحدث عن «خياط أراد أن يعلّم حفيده حكمة عظيمة على طريقته الخاصة. وأثناء خياطته ثوباً جديداً أخذ مقصّه الثمين وبدأ يقصّ قطعة القماش الكبيرة إلى قطع أصغر كي يبدأ بخياطتها ليصنع منها ثوباً جديداً. وما إن انتهى من قصّ القماش حتّى أخذ ذلك المقص الثمين ورماه على الأرض عند قدميه! والحفيد يراقب بتعجّب ما فعله جدّه. ثمّ أخذ الجدّ الإبرة وبدأ في جمع تلك القطع ليصنع منها ثوباً رائعًا، وما إن انتهى من الإبرة حتّى غرسها في عمامته. ففي هذه اللحظة لم يستطع الحفيد أن يكتم فضوله وتعجبه من أفعال جدّه، فسأله الحفيد: لماذا يا جدّي رميت مقصّك الثمين على الأرض بين قدميك بينما احتفظت بالإبرة الرخيصة الثمن ووضعتها على عمامة رأسك؟ فأجابه الجدّ: يا بنيّ إنّ المقصّ هو الذي قصّ قطعة القماش الكبيرة تلك، وفرّقها، وجعل منها قطعاً صغيرةً، بينما الإبرة هي التي جمعت تلك القطع لتصبح ثوباً جميلاً».
الحكاية هذه، على بساطتها، تهيب أوّلاً بالأجيال القادمة الممثلة بالحفيد كي تواجه التفتيت والتشرذم اللذين جعلا من العالم العربي مجموعة من الدويلات الضعيفة والهزيلة ترعاها مؤسسة هشّة اسمها جامعة الدول العربية. وتدعو ثانياً، من خلال الجدّ، إلى ورشة عمل تنهض بالأمة إلى مستوى الإبداع، وقد فعل الجدّ ذلك عندما لملم قطع الثوب الممزّق وجعل منها ثوباً جميلاً. وفي الحكاية ثالثاً دعوة إلى التخلّص من المقصّ، والثورة على المستعمرين والدخلاء والخونة وصغار النفوس الذين كانوا الأصابع التي حرّكت المقصّ وجعلت أمتنا شيعاً وقبائل.
الغريب في الأمر أنّ المقصّ ما زال ناشطاً، فهو يقفز من كيان إلى آخر، ومن حزب إلى آخر، ممعناً في تحويلهم مزقاً صغيرة تنتظر من يجمعها ويصنع منها ثوباً جميلاً، وتنتظر تلاميذ من قال لنا مرّةً:
« إنّي أخاطب أجيالاً لم تولد بعدُ».