الثابت والمتحوّل في السياسة الأميركية

نظام مارديني

ليس من داع للذهاب بالخيال بعيداً ونحن نتابع «دهاليز» السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية، وطريقة تعاطيها مع الأزمات التي تشغل بال المجتمع الدولي.


وإذا كانت الاحتمالات والرؤى تتنوع في طريقة تفسير ما يحدث، بين الإيجابية والسلبية، فإن ذلك لا يقلل من قيمة الاستنتاجات التي رسمت ملامح سلوك الإدارة الأميركية تجاه الآخرين، بقدر ما تعني حاجتنا إلى الواقعية في الرصد والتحليل، فالولايات المتحدة تدرك جيداً أن لا شيء ثابتاً في السياسة، والمصلحة تقتضي الانسجام مع المتحولات، مقابل الحفاظ على الثوابت الاستراتيجية بعيدة المدى، خصوصاً إذا أرادت البقاء في قمة الهرم الدولي، وتجنب الهاجس المزعج الذي يلاحقها منذ سنوات، لنظرية موت الإمبراطوريات، وأفول نجمها.

يتبع الرئيس الأميركي باراك أوباما ومستشاروه، في تحولاتهم تعزيز سياسة «التوسيع» في العلاقات الدولية وإشراك الآخرين، بدلاً من سياسة «التضييق» واستخدام «المدفع»، كما استخدمها «بوش الابن» في السابق، وهذا التحول في سياسة الولايات المتحدة، لا يعني بالضرورة نهاية عصر التحكم، أو اضمحلال دور واشنطن، وضعف سياستها الخارجية، إنّما توضح بأن «التكتيك مختلف ولكن أهدافنا مشتركة» وبيّنها وزير الخارجية جون كيري لدول الخليج، بعد الاتفاقية المبدئية حول البرنامج النووي الإيراني.

وأضاف الرئيس الأميركي في مقابلة مع مجلة «بلومبيرغ فيوز»، تأكيد هذا التغيير، بقوله: «على شركاء الولايات المتحدة من السنّة وهم الحلفاء التقليديون في منطقة الشرق الأوسط، قبول التغيير المقبل في علاقة الولايات المتحدة مع إيران، ما دأبت على قوله لشركائنا في المنطقة، هو أنّهُ علينا أن نتجاوب، وأن نتكيف، مع التغيير» وأضاف: «التغيير مخيف دائماً».

بالتأكيد إن التغيير لا يخيف الولايات المتحدة، وإنما الدول الكلاسيكية، ذات التفكير النمطي الواحد، والتي تنظر إلى الأمر كما عبّر عنه أوباما «لطالما كانت هناك راحة بال، إن الولايات المتحدة مرتاحة للوضع القائم، وللاصطفافات الموجودة، وهي على عداء عنيد مع إيران»، لكن ليس بعد اليوم، فالتغيير أصبح حتمياً بالنسبة للولايات المتحدة. وما على شركاء واشنطن سوى فهم هذه الإشارة ذات الدلالة العميقة في تحولات الإدارة الأميركية.

عندما سُئِل الرئيس الأميركي عن التطرف السُنّي والشيعي، أبدى ملاحظة مهمة في سياق كلامه بخصوص إيران التي من خلالها يمكن أن نفهم التحول الجديد قائلاً: «إذا نظرت إلى التصرفات الإيرانية، ترى أن الإيرانيين استراتيجيون وغير متهورين، ولديهم نظرة عالمية، ويرون مصالحهم، ويتعاملون مع حسابات الربح والخسارة، هذا لا يعني أن حكمهم ليس ثيوقراطياً حكماً دينياً ، يتبنى جميع أنواع الأفكار التي أعتقدها كريهة» كما يقول، ولكنه يتابع بالقول: «إنّهم دولة كبيرة وقوية، ترى نفسها لاعباً مهماً على المسرح الدولي، ولا اعتقد أن لديها تمنيات بالانتحار، ولذلك جاؤوا إلى طاولة المفاوضات من أجل العقوبات».

فالواقعية التي تفرضها السياسة الخارجية الأميركية الجديدة، هي العمل على توسيع الفرص للخصوم، وتجنب التضييق قدر الإمكان، مقابل التأكيد على خيارات الضغط الاقتصادي، وربما العسكري، لكن بوتيرة أقل في حال لم يستجب الطرف الآخر للتغير المطلوب، وكل هذا يخضع لإيقاع منسجم يشترك فيه الجميع، من دون أن يكون للولايات المتحدة الانفراد، وتحمل المسؤولية وحدها، والأزمة الأوكرانية تبقى مثالاً على دفع حلف الناتو وأوروبا للضغط على روسيا، وهذا يعطي فرصة كبيرة للولايات المتحدة، لتجنب المواجهة المنفردة وتبعاتها الاقتصادية الكبيرة، إضافة إلى تخفيف العداء المتنامي لها، بعد ثلاث حروب خاضتها على مدى عقدٍ من الزمن، ورغبة الشعب الأميركي في عدم تكرار هذه التجارب الحربية، ويلامس الباحثان الأميركيان، نينا هاشيجان وديفيد شور في دراستهما، «عقيدة المسؤولية» هذه الحقيقة، بعد اعتراضهما على من أشار إلى ضعف الاستراتيجية الأميركية ورؤيتها الواضحة في عهد أوباما، بأنها تمتلك بالفعل رؤية استراتيجية متكاملة للسياسة الخارجية.

وقد أكّدا على حقيقة، مفادها، أنّ على الولايات المتحدة «العمل على تشجيع أو دفع القوى الصاعدة لتحمل مسؤوليات أكبر، في ما يتعلق بالمنافع المشتركة التي تستفيد منها كل دول العالم، أو ما يطلق عليها The global common goods لتخفيف العبء عليها من ناحية، وكوسيلة لتطوير النظام الدولي، بشكلٍ تدريجي، ليستوعب العدد الكبير من الفاعلين الذين أصبح لهم تأثير في مجريات الأمور فيه من ناحية أخرى».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى