بين هيئة العلماء واللواء ابراهيم

ناصر قنديل

– يريد البعض الإضاءة على الدور الذي يتولاه أو سيتولاه أو قد يتولاه اللواء عباس إبراهيم في ملف العسكريين المخطوفين، من قبل مجموعات داعش وجبهة والنصرة إثر أحداث عرسال، بحسن نية والبعض بسوء نية، تحت عنوان «انتقال ملف التفاوض من هيئة العلماء المسلمين إلى اللواء عباس إبراهيم».

– هيئة العلماء المسلمين هي مجموعة من رجال الدين المقربين من تنظيمي النصرة وداعش والمتأثرين بمناخ التصادم مع الدولة السورية وحزب الله، وفقاً لما يكتشفه أي متابع لمواقفهم قبل وأثناء وبعد أحداث عرسال، والذين تتراوح عملية تقييم مداخلتهم في ملف عرسال، بين تفسير يرى أن همهم كان السعي لتوظيف مأزق الدولة المترددة في الحسم العسكري، والخائف نصفها من الفشل، والهارب نصفها الآخر من الإحراج، للاعتبارات المذهبية والسياسية المحلية والعلاقات الإقليمية، بهدف تحقيق مكاسب هادئة للتنظيمين مع مراعاة إحراج من يناظرهم ويماثلهم في الدولة ومؤسساتها، وبين تفسير آخر يرى، أن الهيئة هي أقرب للجناح السياسي لداعش والنصرة، حققت لهما أهداف العملية العسكرية بأقل الخسائر، فأحبطت مواصلة الجيش لمعركته بتأمين خروج المسلحين من عرسال، بينما احتفظ مسلحو النصرة وداعش بالمخطوفين العسكريين، وحافظوا على وجودهم في أرض لبنانية.

– اللواء عباس إبراهيم هو المدير العام للأمن العام اللبناني، المحددة مهامه بقانون إنشائه باعتباره مؤسسة الأمن السياسي الداخلي والخارجي الوحيدة في الدولة اللبنانية، وشاغل منصب المدير العام المناطة به هذه المهمة، هو شخصية ملتزمة بقوة بفكر وطني مؤسساتي عابر للطوائف والأحزاب، ومترفع على عصبياتها وفئوياتها، وأظهر في مناسبات عدة فوق العقل الإستراتيجي الوطني والوحدوي، أنه ربما يكون أحد قلائل من كبار المسؤولين المؤتمنين على عقل الدولة الجمعي، وخاض غمار ملفات بالنيابة عن هذا العقل الجمعي للدولة المتشظية والممزقة بهوياتها المتعددة، وتموضع رموزها على خطوط تماس طائفية وإقليمية حارة وملتهبة، فأثبت أن بوصلته الدولتية لا تهتز ولا تتأثر بالأهواء ولا بالأنواء، وحاز إعجاب الداخل والخارج لرزانة واتزان مداخلاته وتحركاته ومواقفه، على رغم أنه لا يخفي أمام الداخل والخارج قناعاته، لكنه يعصم نفسه عن توظيف موقعه الدولتي لتحقيق مكاسب للفريق الذي يلاقيه في التفكير، على حساب الفريق الذي يفكر بطريقة أخرى.

– مرحلة قيام هيئة العلماء المسلمين بقيادة عملية التفاوض، وليس المشاركة فيها، وهي مشاركة قد تكون حاجة ضرورية، كانت تعبيراً عن انهيار قادة الدولة نفسياً أمام ذعر داعش والنصرة، والتمسك بقشة هيئة العلماء لتفادي المواجهة العسكرية، ومن ثم للوصول لحل سلمي لقضية المخطوفين ضمن نظرية السير بين النقط، فيسترد الجيش وقوى الأمن مخطوفيهما، ولو بتنازلات كان التمني أن تبقى سراً وتمر من دون أن ينتبه أحد للإهانة التي تلحقها بفكرة الدولة وهيبتها، وتجري لفلفة كل ملف عرسال ومعه بعض سجناء رومية، لكن لم ينتبه هؤلاء المسؤولون ولا هيئة العلماء إلى أن انتقال داعش والنصرة لمرحلة ربط الإفراج عن المخطوفين بسحب حزب الله لمقاتليه من سورية، هو إعلان نهاية المحلي لحساب الإقليمي في قضية خطف العسكريين، وإعلان إمساك المشغل والراعي الإقليمي للفريقين، ولو أسمى نفسه بصاحب الرعاية والتأثير، أو بفاعل الخير، فالتركي والقطري كما في قضية مخطوفي أعزاز، يبقيان صاحب القرار الحقيقي عندما تنتهي هوامش المناورة الممنوحة للاعبين الموضعيين الصغار.

– الدولة الحائرة والدولة المرتبكة وصلت بنصفيها إلى الحائط المسدود ومعها هيئة العلماء، فثمة مرحلة قد انتهت، وما كان يسمى مخاوف هذين النصفين من الدولة لم يعد ينفع لتفادي التعامل كدولة في هذا الملف، فالوضعان الدولي والإقليمي يتغيران بسرعة، والمعادلات التي ولدت الحكومة، وإن غابت عن بعض أهلها، كانت بقيام القوى الكبرى بتذليل تعقيدات داخلية منعت ولادتها لعشرة شهور تحسباً لملاقاة هذه اللحظة، وهي لحظة دخول لبنان مسرح الحرب مع الإرهاب، والمتغيرات اليوم تؤسس لولادة حلف إقليمي دولي لمحاربة الإرهاب، ولا يمكن التهاون مع تهاون البعض اللادولتي في لبنان للتعامل مع ملفاته، على طريقة تبويس اللحى بداعي النأي بالنفس وتحييد لبنان و»مالنا ومالهم»، فلبنان في قلب هذه الحرب وعليه مسؤوليات ليكون في قلب هذا الحلف، وما جرى في العراق من تلاق استثنائي لكل المتقاتلين في المنطقة والعالم لدعم حكومة الدكتور حيدر العبادي، هو رأس جبل الجليد للدلالة على حجم التفاهمات وحجم المسؤوليات ودرجة الخطورة، منذ دخول داعش أطراف أربيل.

– قطر وتركيا أيضاً معنيتان بالتغييرات الجديدة، وقادرتان وراغبتان بتوظيف ما بين أيدهما من أوراق في نقطة الضعف الغربية تجاه لبنان الرخو، بالإمساك بملف التفاوض واسترداد قيادته، بعدما ترك ما أمكن للاعبين الصغار لتحقيق بعض المكاسب الإعلامية، وجاء وقت الجد، ووقت الجد يعني أن تركيا وقطر لا ترغبان بالبقاء في موقع الراعي للإرهاب، والتبييض صار ضرورياً، وهما لم تمسكا بداعش والنصرة من وراء ظهر أميركا أصلاً، بل كانتا جناحاً من جناحي ما سمته واشنطن بالاحتواء المزدوج، في نظرية نستعمل القاعدة ونقاتلها، فجناح الاستعمال الأميركي كان القطري والتركي، ومع نضج لحظة التغيير صار لزاماً عليهما لعب دور الفكفكة للملفات الحرجة بتسويات من نوع جديد، تسويات تحفظ لهما مكانة في اللعبة الإقليمية بعد إقفال باب المكاسب أمامهما في الملف الفلسطيني.

– التسويات هذه المرة من عيار تسهيل انتقال المسلحين حتى الحدود التركية، وتسليم المخطوفين، ووضع مطالبهم في دائرة من الرعاية الهادئة التي لا تخدش هيبة الدولة ولا تمرغ وجه القضاء اللبناني بوحل الذل كما كان مضمون التسوية العلمائية، التي كاد يتورط بقبولها بعض الدولة النصف مذعورة والنصف حائرة، هذا يستدعي أن يكون للملف إدارة دولتيه، مفتوحة أقنية تواصلها مع الحكومة السورية وأجهزتها الأمنية باتصالات تتهرب الدولة المذعورة والمرتبكة بنصفيها من إجرائها، ويحتاجها الملف، كما يحتاج تفعيلها لإغلاق الحدود ومنع التسرب منها.

– إن لم يوضع الملف بيد اللواء عباس إبراهيم فهذا يعني أن المعادلات المحيطة بلبنان لم تنضج بعد، وأن مسؤولي الدولة اللبنانية لم يتبلغوا المهام الجديدة، وأن التركي والقطري لم تحن ساعة استدعائهما للعمل مجدداً، وإن تم أو هو في الطريق ليتم، فهذا يعني أن الأمور دخلت ساعة الجد وأن دور لبنان الدولة قد بدأ، وأن اللعبة الصغيرة في لبنان تقارب نهاياتها لحساب مرحلة مختلفة كلياً، سيكون فيها الغريب الذي سيسمعه الكثيرون أن وجود ودور حزب الله في سورية عامل إيجابي في الحرب على الإرهاب.

– هيئة العلماء المسلمين تتخذ مكانها الطبيعي كمجموعة من المواطنين اللبنانيين القادرين على التواصل مع مجموعات مسلحة اعتدت على الدولة، فتصير إحدى أدوات التفاوض التي يمكن للدولة التي يمثل عقلها الجمعي اللواء عباس إبراهيم استخدامها، في مهمته المرتبطة بمفهوم الدولة ومؤسساتها وهيبتها ودور جيشها وأجهزتها، وموقعها في معادلات دولية وإقليمية كبرى تتغير بسرعة، وعلى لبنان ملاقاتها بسرعة كي لا يغرد خارج السرب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى