مختصر مفيد تركيا ومصر وإيران… بين الدور والدولة
لا تقدّم الجغرافيا إثباتاتها إلا عبر التاريخ، والتاريخ يقول إن امبراطوريتين كبيرتين حكمتا آسيا وبعضاً من أوروبا وساحل أفريقيا، هما فقط عندما كانت بلاد الشام موحّدة. وقدّمت للإسلام الفرصة للانتشار والعالمية بعد أن منحها القيمة المضافة بما مثل من منظومة قيمية وبيئة ثقافية واجتماعية، وأنه في ما عدا ذلك قدّم الشرق للعالم نماذج ثلاثة قدّمتها كل من تركيا وإيران ومصر، بينما حافظت الصين وروسيا دائماً على صفة الدولة ما بين الكبرى والعظمى، بقوة الموارد البشرية والاقتصادية والجغرافية، وتناوبت القوميات الأوروبية على الإمساك بمقدرات القارة أو تقاسمها لتمسك عبرها مكانة لها في العالم، أو تتوزع مغانم هذه المكانة وعائداتها.
لم تكن عبرة التاريخ عبثية بمنح بلاد الشام هذه المكانة في إقامة أضخم امبراطورية اتخذت اسمَي الحكمين الأموي والعباسي على امتداد قرون، قدّم خلالها العرب للإنسانية غلالاً من العلوم والفنون والعمران والمطبخ والملبس والموسيقى والحضارة والبناء الاجتماعي والحقوقي، ولا كانت العبرة عبثية أيضاً في منح الثلاثي المصري الإيراني التركي بالتناوب أدواراً إمبراطورية عرفت المدّ والجزر، في الزمان والمكان، ولا هي كذلك العبرة عبثية بالنسبة إلى أوروبا، ليحاول قادة أوروبا المعاصرون استرجاع الدور والمكانة من نقطة انطلاق هي الوحدة. ولذلك تعاونت دول الغرب وهي تدرك وجهة الفعل التاريخي في توحيد إماراتها وممالكها نحو مفهوم الدولة السوق الأوسع، أن تتقصد رسم خارطة تقوم على تقسيم بلاد الشام عرفت باتفاقية «سايكس ـ بيكو»، بينما لم ينتج التدخل الغربي تقسيماً مشابهاً في مكان آخر، فلم تتقسّم الهند رغم سلخ باكستان وبنغلادش وأزمة كشمير، بل توحّدت في ظل السيطرة الغربية ممالك وإمارات في أفريقيا وآسيا، وولدت دول جديدة من اندماجها، ومنها الدول التي نعرفها في بلاد الجزيرة العربية، وليبيا التي نعرفها.
تعيش البلدان التي عرفت أمجاداً إمبراطورية سقف ما يمكن أن تبلغ. فالغرب يتحكّم بمقدرات العالم متناوباً ومتوزعاً مواقع النفوذ والسيطرة، وفقاً لمعادلات الأحجام والأدوار، بعدما ولدت أميركا التي نعرفها من رحم الهجرات الأوروبية، بينما تصعد روسيا والصين في المعادلات الدولية، إلى المكانة التي تتناسب أو تكاد مع طموحاتها أو شعور شعوبها بالرضى والفخر، وتشبه فيها تاريخاً مجيد تتغنّى به في سيرة أيام العظمة، وتنهض في بلاد الشام مملكتان تمزقان وحدتها وتتقاسمان القتل والعدوان فيها بدعم من بلاد الغرب ورعايتها، هما مملكة بني إسرائيل وإمارات القاعدة ومملكة الخلافة، الممتدتان عمقاً حتى مملكة الجزيرة التي أولاها الغرب لبني سعود، فيما تعيش دول الثلاثي المصري التركي الإيراني، مخاضاً خاصاً بكل منها بحثاً عن التاريخ ومحاولة للإمساك بحيز من الجغرافيا.
تتشابه تركيا وإيران ومصر بالمكانة المفصلية في الجغرافيا القارية، فتركيا على خط الربط الآسيوي الأوروبي، وعلى ضفاف البحرين المتوسط والأسود، وامتداد ديمغرافي في أطراف شرق أوروبا ووسط آسيا لجاليات من أصول تركمانية، بينما تربط مصر العمقين الآسيوي والأفريقي وتشاطئ البحرين المتوسط والأحمر، وبقوة الهوية العربية تحضر في سياسات وثقافة وذاكرة البلدان العربية الآسيوية والأفريقية كأكبر دولة عربية، بينما تقع إيران على خط الربط بين دول آسيا العربية وعمقها في الدول الآسيوية الإسلامية، وصولاً إلى الصين وتقع على شواطئ بحر قزوين الذي يربطها بروسيا ومياه الخليج التي تربطها بالعرب ومن خلفه المحيطات. وتتمتع الدول الثلاث بعدد سكان يقارب المئة مليون نسمة لكل منها وجيوش تقارب المليون لكل منها أيضاً، وبدور مفصلي في جغرافيا النفط والغاز كمصدر أو ممر جغرافي حاسم لخطوط الطاقة.
إذا كان العالم يتغير بوحدة بلاد الشام، فتزول ممالك الشر، وتقوم دولة قائدة قادرة على مصالحة البيئتين العربية والإسلامية، واجتذاب مصر لدور قيادي وتظهير المكانة الفعّالة لتركيا وإيران، بالعمقين الاستراتيجيين لكل منهما، وهذا ما تضمّنته دعوة الرئيس السوري بشار الأسد لمنظومة دول البحار الخمسة التي تضم المتوسط والأحمر والأسود والخليج وقزوين، وربما كان للحرب على سورية دور في منع حدوث تغيير بهذا الحجم، فإن تلك الحرب كانت مستحيلة لو نجاحها بالتوأمة مع مطامح وتطلعات أحد الأركان الثلاثة، تركيا وإيران ومصر، وطبيعياً كان الحلم العثماني لتركيا حاضراً للتقدم للعب دور الحاضن للحرب على سورية.
فيما تواصل مصر مسيرها الباحث عن الهوية والدور، وتنجح إيران باكتشاف طريق الصعود، تبدو تركيا الإشكالية المرشحة لارتباك الأمن الاستراتيجي في المنطقة والعالم، فمصر تبقى حاصل تصالح بين هويات لا تتضارب هي هوياتها الفرعونية والعربية والإسلامية والأفريقية، بينما اكتشفت إيران هويتها الإسلامية والآسيوية والفارسية وأنشات بينها رابطاً حضارياً صاعداً، وبقيت تركيا تائهة بين هوياتها العثمانية والطورانية والإسلامية والأوروبية والأطلسية، وها هي تتشظى تحت وطأة البحث عن صفقة غير موجودة لا في الجغرافيا المفصلية ولا في التاريخ الحرج، وأي حسم لهوية واحدة سيأخذ تركيا نحو النفق المظلم والتفتت.
قبل السياسة، ما تشهده تركيا هو ثمرة هذا الوهم بالهويات المتناحرة، وقبل السياسة لا تقوم الدولة في البلدان الثلاثة المحورية بصناعة الدور، بل تقوم الدولة على صناعة هذا الدور…
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.