مدينة القنوات… تاريخ يروي حضارة جبل العرب
لورا محمود
من أقدم مدن محافظة السويداء السورية وأكثرها أهمية. تعتبر متحفاً أثرياً طبيعياً لما فيها من معالم وأوابد أثرية مهمة. حيث تعتبر آثارها من أعظم آثار منطقة جبل العرب. إنها مدينة القنوات، أغنى المدن الأثرية التي ازدهرت فيها الحضارات المختلفة التي مرّت على سورية.
التسمية والموقع
منذ العصور الحجرية الوسيطة والحديثة، أي منذ حوالى 4000 إلى 12000 سنة قبل الميلاد، سكن الإنسان القديم هذه المنطقة، واستقرَّت فيها مختلف الموجات القادمة من شبه الجزيرة العربية، ومن أكاد، آمور، كنعان، آرامية، آشور، بدءاً من الألف الثالث قبل الميلاد، ثم تعرَّضت للغزو السلوقي والبلطمي ثم الروماني والبيزنطي بدءاً من القرن الرابع قبل الميلاد، إلى أن جاءت الفتوحات العربية الإسلامية عام 635 ميلادياً.
هذا الموقع الجميل يتوغّل في أعماق السويداء ويبعد عنها حوالى سبعة كيلومترات في الجانب الشمالي الغربي من كتلة جبل العرب، وعلى ارتفاع 1250 متراً عن سطح البحر. ورد اسمها القديم في المصادر الدينية والتاريخية «كاناثا»، وفي النصوص اليونانية واللاتينية «كانوتا»، حيث ظهر اسمها على النقود التي صُكّت منذ القرن الأول قبل الميلاد وحتى القرن السادس الميلادي، علماً أنّ أصل التسمية آراميّ ويعود إلى حوالى الألف الثانية قبل الميلاد.
تحدّ المدينة من الجهة الغربية سفوح جبل العرب، ومن الشرق وادي الغار. يقطع المدينة شارع شرقي ـ غربي، يتطابق مع الشارع الرئيس القديم فيقسمها إلى مدينة عليا جنوبية، ومدينة سفلى شمالية. وبنيت المدينة بكاملها بالحجر البازلتي المحلي، ما أعطاها مظهراً فريداً من نوعه.
يعود الاستيطان في المنطقة إلى العصر الحجري الحديث، ثم استمرّ في العهود اللاحقة حتى العصور العربية الإسلامية، ولكنه شهد انقطاعات من القرن التاسع الميلادي وحتى نهاية القرن السابع عشر الميلادي، ما جعل المنطقة خاضعة لسيادة القبائل البدوية المتنقلة، حتى استوطنها من جديد السكان الحاليون القادمون من شمال سورية ولبنان وفلسطين، منذ أواخر القرن السابع عشر الميلادي.
ورد اسم قنوات القديم «كاناثا» في كتابات المصريين، وفي مؤلفات المؤرّخين القدامى مثل: بلينيوس الأكبر وهيروكليس، ويبدو اسم «كاناثا» واضحاً على النقود الرومانية في عصر الامبراطورين كومودوس وإيلاغابال، وفي الكتابات المكتشفة في سهل النقرة في حوران.
الأهمية التاريخية
تبرز أهمية مدينة القنوات التاريخية والحضارية كونها انضمّت نحو عام 50 قبل الميلاد إلى اتحاد المدن العشر «ديكا بوليس»، وهو ائتلاف كان يجمع عدداً من المدن التجارية وهي: فيلادلفيا، عمّان، جرش، إربد، أم قيس، درعا، بيت راس، نابلس، والحصن، وكانت دمشق على رأسها. وقد عدّت في ذلك الوقت محطة تجارية هامة على طريق دمشق ـ بصرى. وعرفت في القرن الأول تطوّراً اقتصادياً مهماً في مجال الزراعة، وشغلت في العصر البيزنطي مركزاً أسقفياً ارتبط بأنطاكية، وشكّلت مركزاً مهماً للحجّ المسيحي إلى جانب مدينة السويداء. كانت القنوات مدينة هامة جداً، خصوصاً أيام الرومان الذين جعلوها منذ عام 60 قبل الميلاد واحدة من أهمّ المدن العشر القديمة.
من آثار مدينة القنوات
بدأ التنقيب الأثري في مدينة القنوات عام 1960 برئاسة بعثة وطنية كشفت عن مقبرة الأساقفة الواقعة شرق مجموعة الكنائس. وبين عامَي 1962 و1965، تم الكشف عن كامل منطقة المعابد والكنائس وملحقاتهما. وبين عامَي 1997 و2002 نفّذت بعثة سورية ـ ألمانية عدّة مواسم تنقيب في عدد من المباني المكتشفة. معبد الإله تياندريوس المقام خارج الأسوار والذي يعود إلى القرن الثاني الميلادي، ومعبد حوريات الماء ويعود إلى القرن الثالث الميلادي. وكان من نتائج أعمال التنقيب العثورعلى لِقى مهمة: أوانٍ فخارية وزجاجية، نقود فضية وبرونزية، ورقاقات ذهبية، منحوتات بازلتية، وكتابات يونانية. وفي وادي القنوات تم اكتشاف طبقات تعود إلى العصر العربي الإسلامي، كما عثر على مجموعة من الأقنية الحجرية بطول 60 متراً كانت المياه تأتي بواسطتها لتمرّ بمعبد الحوريات.
أهم الأماكن الأثرية
من أهم أثار مدينة القنوات المعابد الأثرية الخمسة. وأولها «معبد هليوس» الذي كرّس لعبادة إله الشمس ويعود بناؤه إلى القرن الثاني الميلادي. كانت له ستة أعمدة في واجهة مدخله، أربعة منها في الخط الأمامي، والعمودان الباقيان في إطار الباب، وهي ذات تيجان زيّنت بأكاليل من أوراق «الأكانت» ذات الطراز «الكورنثي».
والثاني «معبد زوس» إله السموات، ويعود تاريخ بنائه إلى القرن الثاني الميلادي ويقع في الجزء الجنوبي من المدينة قرب السور. والثالث «معبد أثينا اللات» وهي إلهة الحكمة، ويعود تاريخ بنائه إلى القرن الثاني الميلادي. يقع ضمن مجموعة الكنائس المعروفة بـ«السراي».
والرابع «معبد إلهة المياه»، ويعود تاريخ بنائه إلى النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي، خُصّص لعبادة إلهة المياه، حيث يبقى داخله مملوءاً بالمياه لأشهر عدّة وبذلك يستمرّ تقديس إلهة المياه.
والخامس معبد «الأوديون»، يعود بناؤه إلى النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي، وهو مسرح صغير الحجم يقع على الضفة الشرقية لوادي «القنوات»، بقيت اليوم منه تسع درجات بعضها محفور في الصخر.
ومن آثارها مدينة القنوات أيضاً «الحمّامات القديمة» التي تقع في الجزء السفلي الغربي من المدينة. ويعود تاريخ بنائها إلى بداية القرن الثاني الميلادي. ويحيط بها سور زوّد بأبراج منيعة لصدّ الغزاة. اختفت بعض أجزائه ضمن المنازل التي بُنيت لاحقاً. أما بوابات المدينة فلم يبق منها سوى الباب الغربي المقابل لتجمّع «السراي»، وقد قام العالم الأميركي بتلر بتصويرها إضافة إلى ما وثّقه من آثار المنطقة.
وهناك «الكنائس البازليك» التي تقع ضمن مجموعة الكنائس «السراي» وكان الدخول إليها يتم من الجهة الغربية عن طريق مدخل كبير له ثلاثة أبواب. من هذه الكنائس، «الكنيسة الكبرى» التي تطلّ واجهتها على الشارع المحوري مباشرة، وتمتد أجزاؤها تحت المنازل الواقعة إلى الشرق، ويعود تاريخ بنائها إلى القرن السادس الميلادي. وعلى أحد جدران مدخلها كتابة يونانية تفيد بأن «سالومي» والدة الأسقف «جورج» قد تبرّعت ببناء هذه الكنيسة. ولا تزال في أرضية مدخلها فسيفساء ملوّنة ذات نقوش هندسية مسجلة بقسميها الشرقي والغربي. أما قسمها الغربي فهو مختفٍ تحت المنازل ويظهر على الشارع المحوري.
ومن آثارها المدينة أيضاً، «النزل والفنادق» التي كانت محطات استراحة وفنادق للمبيت تحتوي على طابقين مع مدخل وباحة كبيرة يستخدم لإقامة الحجاج والمسافرين. ثم تحوّل البناء كمقرّ لسكن إحدى الشخصيات الدينية الهامة. ويعود تاريخ بنائه إلى النصف الأول من القرن الثاني الميلادي. وهناك أيضاً «المقابر الرومانية والبيزنطية» التي يقع معظمها على جانبَي الطريق القادمة من السويداء. وهناك مقبرة الأساقفة الواقعة إلى جوار الكنيسة الشرقية.
ولعلّ «شارع النجمة» هو من أهم الشوارع وأقدمها في مدينة السويداء، وهو الممتد من قوس «الكنيسة الصغرى» إلى ساحة «النجمة» حالياً.
ومن الجدير ذكره أن نُصباً كتابياً يونانياً عُثر عليه في موقع قرب ليون في فرنسا، يحمل تذكاراً لأحد تجّار «القنوات» واسمه تيم بن سعد، ما يؤكد الدور الذي قامت به «القنوات» من خلال أبنائها الذين وصلوا بتجارتهم إلى أنحاء مختلفة من أوروبا.