في لبنان… السلطة مصدر الثروة أم العكس؟
د. عصام نعمان
بعد مضيّ عقد من الزمن على صدور كتابه «أزمة الاقتصاد اللبناني»، يعود غالب أبو مصلح إلى معالجة الأزمة المزمنة بمقاربة مغايرة من خلال مقدّمة جديدة لطبعته الثانية المنقحة، تسنّى لي الإطّلاع عليها. في مقاربته المغايرة يركّز أبو مصلح على دور الطبقة الحاكمة ومتغيّرات بنيتها منذ نظام المتصرفية في مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر الى «نظام» رفيق الحريري في العقد الأخير من القرن العشرين. اللافت في تحليله المعمّق للأزمة المزمنة تلك الصلةُ السببية، بل العلاقة الجدلية، بين السياسة والاقتصاد التي تطرح سؤالاً مفتاحياً في لبنان وغيره: هل السلطة مصدر الثروة او الإثراء أم العكس؟
يؤكد أبو مصلح أنّ السلطات الفرنسية في حكمها لبنان اعتمدت على طبقة التجار وقطاع المال المصارف وعلى استرضاء الأرستقراطية الريفية والمدينية الموروثة من العهد العثماني القادرة على ضبط أهل الريف والمدن. بعد الاستقلال عن فرنسا العام 1943، استمرّ حكم الطبقة التجارية المالية، المدعومة بالأرستقراطية الريفية والمدينية رغم تناقضاتها الداخلية، وبإستتباعات متغيّرة جزئياً للخارج الأوروبي».
تعزّزت طبقة التجار وأرباب المال «بانضمام برجوازيات فلسطينية وسورية ومصرية الى صفوفها … نتَيجةَ سقوط فلسطين ونتيجة الإنقلابات العسكرية الراديكالية في المحيط العربي».
قادت طبقة التجار وأرباب المال لبنان في مرحلة ما بعد احتلال الصهاينة فلسطين، مستفيدةً من مقاطعة مرفأ حيفا لمصلحة مرفأ بيروت، ومن إغلاق قناة السويس عقب العدوان الثلاثي على مصر. لكن تطورات الصراع العربي الإسرائيلي مقرونةً بالصراع الأميركي السوفياتي سرعان ما حوّلت لبنان «ساحةً للصراعات الإقليمية والدولية وهدفاً للسيطرة والاستتباع من قبل القوى الإقليمية». في هذا السياق، طلب فريق من الطبقة الحاكمة، بضوء أخضر من الولايات المتحدة، إدخال الجيش السوري الى البلاد للحؤول دون هزيمة هذه الطبقة أمام منظمة التحرير الفلسطينية وحلفائها من القوى الوطنية واليسارية. إزاء امتناع سورية، بعد دخول جيشها، عن إنهاء الوجود والنفوذ الفلسطينيين في لبنان، قامت «إسرائيل»، بتحريض من الولايات المتحدة، باجتياح البلاد العام 1982.
أحدث الاجتياح الاسرائيلي والتطورات الإقليمية المواكبة واللاحقة تبدّلاً كبيراً في دور لبنان التاريخي، اقتصادياً، المتخصّص في إنتاج خدمات يحتاجها محيطه العربي. غير انّ التبدّل الأكبر حدث في بنية الطبقة الحاكمة. ذلك أنّ قادة الميليشيات المتصارعة كانوا وضعوا أيديهم على المرافق والموانئ البرية والبحرية وسخّروها لخدمة مصالحهم، وفرضوا أنفسهم شركاء أساسيين على الطبقة الحاكمة الأمر الذي تجلّى في المداولات التي جرت، برعاية سعودية سورية أميركية، في الطائف العام 1989 وأنتجت وثيقة الوفاق الوطني المعروفة بـ«اتفاق الطائف».
هذه الأحداث والتطورات الإقليمية والمحلية أنتجت، بحسب أبو مصلح واستنتاجاته الموثّقة، ثلاثة متغيّرات استراتيجية:
أولها، «إعادة إنتاج النظام السياسي اللبناني على أسوأ مما كان» إذ تمّ تعديل بنية الطبقة الحاكمة بإسقاط الأرستقراطية الريفية والمدينية، أو معظمها، وارتقاء متزعّمي الميليشيات المذهبية، أيّ أمراء الحرب الأهلية وصانعيها، الى سدة أصحاب القرار السياسي والاقتصادي والمالي ضمن فئة هي أشبه ما تكون بشبكة سياسية مغلقة ترسم المسارات وتصنع القرارات.
ثانيها، تحوّل السلطة، بكلّ مستوياتها، الى مصدر للثروة والإثراء لدرجة يحار المرء في توصيف أهل النظام: هل هم رجال أعمال وأموال يمارسون السياسة أم رجال سلطة وسياسة يمارسون الأعمال والمقاولات، أم أنهم الفئتان معاً في مزيج فينيقي مركانتيلي عجيب غريب! لكن فات غالب أبو مصلح، على ما يبدو، الاستشهاد بمثال صارخ على راهنية هذا المزيج الغريب. ذلك انّ مجلة «فوربس» Forbes كانت ذكرت أنّ ثروة أحد رجال الأعمال كانت، عشية تعيينه في منصب سياسي نافذ ورفيع، نحو ملياريّ/بليوني دولار أميركي، فأضحت، يوم فَتَحَ ورثته تركته لاحتساب ضريبة الإنتقال بعد مكوثه سنوات عشر في السلطة، نحو ستة عشر ملياراً!
ثالثها، اعتماد ما يُسمّى حكم الميثاق بدلاً من حكم الدستور والقانون. تفسيراتٌ عدّة أعطيت لحكم الميثاق أو الميثاقية يتمحور معظمها على اعتماد التوافق والتوازن بين الطوائف الست الكبرى في إطار المناصفة بين المسلمين والمسيحيين. غير انّ صيغاً عدّة جرى اعتمادها لترجمة الميثاقية الى توافقات وصفقات مرحلية بين القوى السياسية المتصارعة كان قاسمها المشترك الخروج على أحكام الدستور والقانون بدعوى مواجهة ظروف أمنية وسياسية استثنائية. في هذا السياق يمكن رصد «الإنجازات» الآتية للشبكة الحاكمة:
ـ قيام مجالس النواب المتعاقبة بإصدار قوانين عفو عام في سنوات 1958 و 1969 و 1977 و 1992 و 2005، وذلك بعد كلّ جولة اقتتال وقتل ونهب وتدمير، إذ جرى بعدها إسقاط حقوق الضحايا، وغسل أيدي المجرمين، وإضفاء حصانة على مجرمي الميليشيات الطائفية ووضعهم فوق المساءلة والمحاسبة.
ـ اقرار قوانين انتخابات نيابية مخالفة لأحكام الدستور ولا سيما المادة 7 منه التي تنص على مساواة اللبنانيين أمام القانون، والمادة 27 التي تنص على انّ النائب يمثل الأمة جمعاء ما يستوجب ان يكون لبنان كله دائرة انتخابية واحدة.
ـ عدم إجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها القانونية وتمديد ولايتها مرات عدّة بلغت 20 سنة بين 1972 و1992 وذلك بدعوى وجود ظروف أمنية استثنائية تحول دون إجرائها. وكذلك عدم انتخاب رئيس الجمهورية بالذريعة نفسها بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان سنة 2014.
ـ عدم إقرار الموازنة العامة للدولة لمدة تزيد عن عشر سنوات وعدم البت بموجب قطع حساب الموازنة لمدة مماثلة.
ـ زيادة الإنفاق العام خارج إطار الموازنات العامة حتى العام 2005 وخارج أيّ موازنة أو رقابة سابقة ولاحقة على الإنفاق العام حتى يومنا هذا، الأمر الذي أدّى إلى أن ينتج «التورّم» في الإنفاق الجاري نمواً في الدين العام بلغ منتصَف هذه السنة نحو 80 مليار/ بليون دولار.
هذا بعض ما كشفه غالب أبو مصلح في كتابه القديم الجديد الذي سيجد طريقه إلى النشر قريباً. ولعلّ العنوان الأفضل الذي يستحقه هو «الاقتصاد السياسي للأزمة اللبنانية»… هذه الأزمة المزمنة والمتمادية.