جيش تركيا الجريح… واحتمالات خلط الأوراق إقليمياً!
سومر صالح
كثر ضجيج تركيا إعلامياً في الفترة الأخيرة، لعلّ سببه هو الصمت والتعتيم المخيّم على طبيعية التفاهمات الأميركية الروسية، ومحاولة تركيا التأثير عليه من هنا أو هناك لتحصيل مكاسب، ومع هذه السرية المحيطة بنواتج التفاهم الروسي الأميركي، لم يكن ينقص السلطان العثماني إلا سيطرته على محاولة الانقلاب في تركيا ليتبوأ صدارة المشهد الإقليمي إعلامياً، لعبةٌ كان أتقنها على مدى سنيّ الحرب السورية، بل كانت سلاحاً لا بأس فيه لخلط الأوراق وحجز مكان ما في أغلب محاولات التسوية حول الأزمة.
يطلق بن علي يلدريم تصريحات إيجابية حول دول الإقليم وخصوصاً سورية، تسارع موسكو بعدها مباشرة إلى محاولة ترجمتها على أرض الواقع بحذرٍ سياسيٍّ، تتجاهلها الولايات المتحدة عن عمد، لأنّ نواتج التفاهم مع موسكو على ما يبدو لا تقبل القسمة على ثلاثة، وفي خضم هذه الأحداث تأتي محاولة الانقلاب في تركيا لتشير حكومة العدالة والتنمية بأصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، وتتوتر العلاقة بين الحليفين التقليديين، يستثمر أردوغان الحدث ويبدأ بانقلاب مدني على كلّ أدوات وحلفاء الولايات المتحدة في الجيش والسلطة الحالية، وتطال الحركة الانقلابية الأردوغانية أيضاً الشريحة العسكرية المؤيدة للتقارب مع موسكو وأوراسيا، والتي باتت ترى في شراكة تركيا مع الأطلسي عبئاً عليها، بالمحصلة أصبحت تركيا أردوغانية عثمانية بإمتياز ترجمها جهاراً هاكان فيدان رئيس المخابرات التركية ،عندما أعلن بلا مواربة بأنّ محمد الفاتح يولد من جديد، في دلالة إلى مشروع تركيا الجديد في المنطقة والعين على أوروبا الضعيفة حالياً، وسلاح أردوغان الفعّال في تنفيذ مشروعه الجديد هو الجيش ذاته الذي انقلب عليه منذ أيام قليلة معدودات، حيث عمد أردوغان لوضع الجيش أمام احتمالين: إما بقاؤه في الحكم أو حرب أهلية أعدّ لها قادة العدالة والتنمية جيداً برؤية إخوانية وطابٍع سلفيٍّ، ومع رفض الوحدات العسكرية الاصطدام مع المدنيين كانت المسامير الأخيرة تدق في نعش الانقلاب الغامض، والذي سارع أردوغان بعده إلى تصفية قادته وجنرالاته وصفى معه كلّ من يشك بعدم ولائه لمشروعه السياسي، وتعمّد أنصار أردوغان كسر هيبة الجيش وإذلال العسكريين على مرأى من عيون الإعلام، وبات جنرالات الجيش عرضة للاعتقال والملاحقة من الشرطة والمخابرات وحتى دوريات الجمارك ليمعن أردوغان في كسر صورة الجيش التركي والذي كان لتاريخ 15/7 حامي الجمهورية التركية «العلمانية»، ولعلّ أردوغان وحكومته تقصّدا كسر صورة الجيش التركي ليغدو أكثر مطواعية في تنفيذ مشاريعه الجديدة…
ما زال الوقت مبكراً لتقييم أثر السياسات الأردوغانية واعتقالاته على طبيعة الدور الجديد للمؤسسة العسكرية، وولائها للمشروع الأردوغاني على حساب الموروث الاتاتوركي في الجيش، ولكن وكنتيجة لانكسار صورة الجيش التركي بفعل الإجراءات الانتقامية الاردوغانية والحاجة الماسة لاستعادتها على الأقلّ معنوياً، ومع تولي الجيش قادة عسكريون في الصف الأول يدينون بالولاء الشديد، لاردوغان قد تتلاقى المصالح الظرفية بين مشروعين الأول عسكري راغب بإعادة صورة الجيش التركي القوي والمنظم، والثاني سياسي عثماني راغب بالتوسع حيوياً خارج حدود الإقليم التركي، بذلك يصبح الجيش التركي أكثر قابلية لتنفيذ مشروع أردوغان السياسي رغبة في تحقيق نصر عسكري يعيد الجيش التركي إلى سابق عهده، ونستطيع القول إنّ طبيعة العلاقة القائمة بين اردوغان والمؤسسة العسكرية قد انقلبت، فبعد أن كان الجيش التركي عصاً معرقلةً لعجلة التهوّر الأردوغاني مدفوعاً بمخابراته الغارقة في كلّ أزمات محيط تركيا، وفرمل معها طموحات أردوغان العسكرية في سورية والعراق، أصبح من مصلحة هذا الجيش دعم تحرك عسكري لاردوغان يعزز الحضور العسكري التركي داخلياً وإقليمياً، ويمسح معه صورة الضعف التي ارتسمت مع محاولة الانقلاب الفاشلة وربما المجهضة، لذلك علينا قراءة طبيعة المشروع الاردوغاني السياسي حالياً لمعرفة أين من الممكن أن يتلاقى المشروعان، ففي ظلّ تصريحات حكومة العدالة والتنمية، يبدو حالياً أنّ تصوّراً جديداً لدور تركيا الجديد آخذ بالتلبور يقوم على ثلاثة مبادئ: تخفيف المشاكل في محيط تركيا إلى أقلّ درجة ممكنة، والمبدأ الثاني عدم المواجهة مباشرة مع إحدى القوتين الدوليتين روسيا والولايات المتحدة، والمبدأ الثالث أن يكون لتركيا مشروعها السياسي الخاص بعيداً عن أماكن احتكاك مشروعي القوتين الدوليتين الأكبر، في ظلّ قناعة تركية جديدة بعدم إمكانية انضمامها إلى الاتحاد الأوربي، عزّزها خروج بريطانيا من هذا الاتحاد، وأنّ بقاء تركيا في حلف الأطلسي يجب استثماره جيداً، كي لا تبقى تركيا مجرد كيان عازل لمشروعين جيوبولتيكيين، وفي ظلّ هذه القراءة من المستبعد جداً أن تكون سورية أحد الاحتمالات الممكنة لتلاقي المشروعين السياسي والعسكري على المدى المتوسط، ولكن على عكس الحالة الماضية ولأكثر من خمس سنوات يبدو أنّ أردوغان هو من غيّر في خططه التي أعاقتها سابقاً هواجس المؤسسة العسكرية التركية، ليبقى متاحاً أحد ثلاثة سيناريوات بالنسبة للمؤسسة العسكرية، السيناريو الأول عمل عسكري داخلي ضدّ كرد تركيا وتصفية العمل المسلح الكردي داخلياً، والسيناريو الثاني عمل عسكري خارجي ضدّ «حزب العمال الكردستاني» في معاقله الرئيسية في جبال قنديل العراقية، والسيناريو الثالث الانضواء خارجياً تحت مظلة دولية لضرب تنظيم «داعش» الإرهابي، مستبعدين سيناريو أن يقوم الجيش التركي بضرب «حزب الاتحاد الديمقراطي» داخل سورية راهناً بوصفه الذراع الأميركية الأكبر ميدانياً في سورية، ولأنه بنظر الروس سيكون عدواناً على الأراضي السورية بغض النظر عن الطرف المستهدف، ولو أردنا مناقشة السيناريوات الثلاثة لتبيّن لنا أنّ السيناريو الأول مستبعد حالياً لأنّ نجاح الجيش التركي في القضاء على «حزب العمال الكردستاني» مشكوكٌ فيه وحتى في حال نجاحه ستقوي هذه العملية الجيش التركي في السياسة الداخلية، وهو أمرٌ يصارع أردوغان على عدم العودة إليه، وربما في عملية واسعة ضدّ الأكراد شبح حرب أهلية في تركيا يتجنّبها الجيش منذ مدة، أمّا السيناريو الثاني فهو مقبولٌ شكلاً لأنّه يعزز صورة الجيش التركي الإقليمية بما يخدم مشروع أردوغان السياسي، ويعيد الصورة العسكرية المتماسكة للجيش التركي.. إلا أنّه محفوف بالمخاطر وخطر الاصطدام مع مصالح الولايات المتحدة في «كردستان العراق» لا سيما بعد توقيع الاتفاقية العسكرية بين واشنطن وأربيل وتحوّل «كردستان العراق» إلى جيش احتياطي للناتو وذراعاً طويلاً للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وبالتالي أيّ محاولة لعمل عسكري في شمال كردستان العراق ستخضع للشروط الأميركية وهو أمرٌ قد يفاقم حالة التوتر الحاصلة بين أردوغان وإدارة أوباما، ولكن مع إدراك أردوغان لضرورة تنفيذ الجيش التركي لعمل عسكري يرأب الصدع في هيبته، ويتجنّب أن يكون هو شخصياً هدفاً محتملاً لهذا العمل يبقى الاحتمال الثالث وارداً موقتاً، أيّ أنّ ينفذ الجيش التركي ضربات منظمة لتنظيم «داعش» في سورية تحت مظلة التفاهم الروسي الأميركي الجديد، وأن يحاول توسيع دائرة عمل قاعدته العسكرية في بعشيقة في العراق، ويحجز مكاناً ما في معركة الموصل أو يوسع حضوره الميداني هناك، دون إغفال إمكانية تنفيذ عمل عسكري «محدود» زمانياً ومكانياً في شمال العراق تحدّده طبيعة الموافقة الأميركية على هذا الإجراء.