هل تُقدِم واشنطن على تغيير دي ميستورا؟ كيري «عادل غبي… وستيفان رخيص»
ناصر قنديل
– يميل الكثير من المتابعين والسياسيين والمحللين في الشرق أكثر من الغرب إلى تفسير أحادي يربط كلّ ما يجري على جبهة الحلف الذي تقوده واشنطن بمشيئة أميركية مبرمجة ومخطط لها مسبقاً، بصورة تعطي الانطباع عن أميركا التي لا تخطئ، والتي لا تضعف، وحكماً التي لا تُهزَم، فكيف يمكن تخيّل أميركا التي ينفرد عنها حلفاؤها الذين يتمتعون بحمايتها، أو بالأحرى كيف يجرؤون على التفكير بفرض مواقفهم عليها، وكيف يجرؤ أحد على تخيّل ذلك؟ ويطبع هذا الميل أغلب التحليلات التي تناولت الانقلاب التركي وإفشاله، لكنه يطبع بصورة أقوى المقاربات الخاصة بالحرب على سورية.
– يصعب على هؤلاء الاقتناع بأنّ واشنطن ضعفت كثيراً بفشل حملتها العسكرية الإمبراطورية الثانية التي انطلقت العام 2000 مع المحافظين الجدد نحو آسيا، بعدما انطلقت الحملة الأولى عام 1990 نحو أوروبا في عهد الديمقراطي بيل كلينتون غداة سقوط الاتحاد السوفياتي، فأسقطت «عراق» و«أفغانستان» الأوروبيين المتمثلين بيوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، فتفتت الأولى بحرب ضروس كرّست نظرية الحرب بخسائر صفر، وانشطرت الثانية تحت الضغوط والحصار وحروب الترويض والتطويع واللعب على أوتار الإتنيات والأعراق. وصارت كلّ شظايا الدولتين الكبيرتين جزءاً من محميات غربية تلوذ بحمى المشروع الأميركي الصاعد، تحت مسمّى الاتحاد الأوروبي الجاذب كبديل لمشروع منفّر ويسبّب الصداع اسمه حلف الأطلسي. وتمكّنت الحملة الأولى من بلوغ حدود روسيا بثورتين ملوّنتين أساسيتين أسقطتا تونس ومصر الأوروبيتين، واحدة في جورجيا والثانية في أوكرانيا، وتشكل الثلاثي الأوروبي الوكيل من ألمانيا الموحّدة وفرنسا وبريطانيا، لرعاية هذه المحمّيات وإدارة الحصار على القلعة الروسية، أيّ «إيران» الأوروبية، أملاً بسقوط خط دفاعها الأمامي في روسيا البيضاء، أو سورية الأوروبية.
– حدثت الثورات الملونة بعد في زمن الحملة الإمبراطورية الثانية مع جورج بوش، لكن رماح حربه كانت آسيوية، وما جرى في الثورات الملوّنة كان استمراراً لتداعيات الحملة الأولى التي كانت رماحها أوروبية، وتحققت أهدافها بنجاح، بانتظار أن تنجح الحملة الثانية، فتحاصر إيران وسورية، وتسقطان، ويمهّد البر الآسيوي لسيطرة أميركية مطلقة، يتيح ردّ الاعتبار للمكانة العسكرية لإسرائيل، والمكانة السياسية للسعودية ربطاً، لكنه يتيح أساساً، السيطرة على مواقع وموارد وممرات الطاقة، كما وثق وشرح تقرير الطاقة الأميركي المكوّن من قرابة ألف صفحة والذي أقرّه الكونغرس الأميركي عام 2000 كخلفية للخطة الاستراتيجية للحملة الإمبراطورية الثانية، موضحاً أهمية حوض بحر قزوين، ومكانة إيران وكازاخستان فيه، وحيوية مكانة العراق وصولاً لنفط وغاز البحر المتوسط، وخطوط استراتيجية تعزل غاز إيران عن الصين بواسطة أفغانستان، وغاز روسيا عن أوروبا ببديل قطري عبر سورية وتركيا، ويمكن القول بقدر من التصرف أن الحملة الثانية كانت استنتساخاً يعوزه الإبداع للحملة الأولى، وتطبيقاً سيئاً ومبالغاً به لدروسها، فبمثل ما كانت أفغانستان والعراق نماذج فاشلة لحروب تفتيت وإخضاع تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا، وكانت ثورات مصر وتونس نماذج هزيلة لثورات جورجيا وأوكرانيا، كان الثلاثي التركي السعودي الإسرائيلي نموذجاً كاريكاتورياً للثلاثي الألماني الفرنسي البريطاني، وجاء الاستخدام المفرط وقليل الحياء لتنظيم القاعدة في حربي سورية والعراق تكراراً، لدور التنظيم في حرب كوسوفو بقدر من التكتم والتحفظ والريبة.
– كان معلوماً أنّ نجاحات الحملة الأولى ستبقى معرّضة للاهتزاز ما لم تحقق الحملة الثانية النجاح المنتظر، فبدون إخضاع إيران وسورية، لن يكتمل حصار روسيا والصين، ولن تتنفس أوروبا وتلقى عائدات استثمارها وتضحياتها وفواتيرها العالية لضمّ دول أوروبا الشرقية إلى اتحاد يفتح الأسواق لبضائعها الزراعية ويدمر الزراعة المحلية، ويجلب آلاف العاملين والمهنيين لمنافسة الطبقات الوسطى والفقيرة في مصادر رزقها. والحلم الأوروبي ينتظر الغاز الرخيص المتدفق من روسيا الضعيفة المحاصرة، ومن قطر بعد إخضاع سورية، والبضائع الأوروبية المنتجة بكلفة أقلّ ستهزم البضائع الصينية التي سيحاصرها سعر الطاقة لتنتج بكلفة أعلى. ولما فشلت الحملة الثانية بجناحَيْها العسكري، المتمثل بحربَيْ العراق وأفغانستان، والناعم المتمثل بالثورات الملونة المشفوعة بتدخل القاعدة، على خلفية مشروع شبيه بحلم الاتحاد الأوروبي، يتخذ عنوان العثمانية الجديدة. وفي المرتين، كان الفشل سورية، بدأت تتداعى رماح الحملة الأولى والثانية، فظهرت أعراض التفكك والضعف على المشروعين الصاعدين، الاتحاد الأوروبي والعثمانية الجديدة، وانفلتت القاعدة من قواعد الضبط والسيطرة وصارت مشروعاً له خصوصية أهداف بفرعيه الرسمي والمنقح، النصرة وداعش، وصعدت مكانة روسيا كلاعب فاعل ومتمكن يمتد نفوذه من الشرق الأوسط إلى أوروبا، وصار ثابتاً في عمق العقل الأميركي أن إيران وسورية خرجتا من دائرة الخطر، وان الاعتراف بهذه الحقيقة وترجمتها في السياسة يتوقف على قدرة الحلف الثلاثي الإسرائيلي التركي السعودي على الامتصاص وتحمّل النتائج، وعلى استثمار مكابرة وعناد هذا الثلاثي لتحسين شروط هذا الاعتراف.
– كانت الحرب على الإرهاب هي المخرج الوحيد المتاح لتبرير الانعطافة الأميركي الحتمي، فرغم صحة كل ما يُقال عن المكر والخداع الأميركيين، يشكل الاعتراف بحدود القدرة على التغيير، سمة للبراغماتية الأميركية، والانتقال إلى الخطة «ب» تقليداً راسخاً لا يحتاج إلى رفة جفن ولحظة ندم. والخطة «ب» هنا هي التهيؤ لمعركة تسلِّم بالفشل في المعركة الراهنة. وفي الحالة السورية، هي الاستعداد لانتخابات برلمانية ورئاسية تحجز مقعداً وازناً في مستقبل سورية، والتعاون مع روسيا في التخلّص من داعش، ولو كان الثمن القبول والشراكة بالتخلص من النصرة، ومحاولة توظيف الاستثمار الأميركي المنفرد عن الحلفاء في التفاهم على الملف النووي الإيراني. وهذا الانفراد لم يكن عبثاً ولا صدفة، لبلوغ صفقة متكاملة تتيح استيلاد نظام إقليمي يضمن الاستقرار في الحوض الممتدّ من حدود روسيا مع تركيا إلى حدود أفغانستان مع الصين، لا يمكن إتمامها بدون تهيئة إسرائيل لتسوية قابلة للتسويق للقضية الفلسطينية تتيح التحدث عن شراكة مع روسيا حولها، وبدون تهيئة تركيا والسعودية لتقبل أدوار إقليمية أقلّ وزناً وأهمية، ولا يغفل أي متابع للمشهد الإقليمي عن تركيب المنصات وتجهيز المسارح لهذه التغييرات.
– لأنّ عقدة الحروب كلها في سورية، فعقدة التسويات كلها في سورية، والتناقض بين ما يدركه الأميركي وما يستطيع البوح به للحلفاء، وللعلن هي القضية، مَن سيجرؤ على القول علناً لا بدّ من التعاون مع الرئيس السوري والاعتراف بالفشل في إسقاطه، والتسليم بصفته ركناً مؤسساً للنظام الإقليمي الجديد، وهنا كانت تقع مهمة المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا وقبله المبعوث الأخضر الإبراهيمي، مع تبلور بدايات المشهد الجديد في نهايات مهمته، وكلاهما كان بيده لو كان مجرد سياسي خبير يلتقط الإشارات ولا يُحرج الأميركي بطلب التصريح بما لا يمكنه التصريح به، أن يجترح المخارج، كما يفعل المبعوث الأممي في اليمن بربط القرار الأممي 2216 بتسوية تقوم على حكومة وحدة وطنية تشكل شرطاً لنجاح التسوية، والقرار الذي يشكل وحده دعوة ضمنية لليمنيين للاستسلام أمام الغزوة السعودية التي فشلت. ولذلك فهو يشبه بيان جنيف واحد لجهة ولادته في ظلّ موازين قوى تغيّرت، ولا يلائم المتغيّرات، والذي يدعو سورية ضمناً للاستسلام للغزوة الأميركية برماحها السعودية التركية الإسرائيلية، والتي فشلت، والذي يحتاج لربطه بالدعوة لانتخابات تجري بعد الفوز في الحرب على الإرهاب، في ظلّ دستور ينتجه الحوار السوري السوري بينما بقي دي ميستورا ومن قبله الإبراهيمي على الضفة الأشدّ تطرفاً في العداء لسورية في قلب الحلف الذي تقوده واشنطن، وبقي المال السعودي يضعهما في موقع التسبّب بالإحراج لواشنطن بادّعاء ترجمة خطابها العلني، وليس تطلعاتها الفعلية، لما يجب أن يقدّمه المبعوث الأممي وتتظلل به واشنطن.
– في الزيارة الأخيرة لموسكو قال وزير الخارجية الأميركي جون كيري في مجلس وصلت أصداؤه إلى إعلاميين روس فاعلين، إنّ وزير الخارجية السعودية غبي ومبتدئ في كلّ ما يقوله حول روسيا، وتوقع تخلّيها عن الرئيس السوري والتقدّم لروسيا بعروض مالية وبوعود مشاركتها في النفوذ في الشرق الأوسط وتقديم المغريات لها بالتعاون في أسواق النفط. وأضاف كيري أنه يتوقع من روسيا أخذ ما يهمّها من السعوديين من تحسين للعلاقات، وترك الباقي في السياسة حول سورية بإظهار عدم إمكانيته وليس رفضه، فروسيا تستطيع القول إنها لا تمانع برحيل الرئيس السوري ولكنها لا تقدر، أو أنها لا تمانع بتنحي الرئيس لكنه لا يقبل، لكنه قال إنّ الأميركيين غير متفاجئين بغباء عادل بقدر مفاجأتهم بأنّ ستيفان رخيص. وقد حدث هذا بعد نهاية التفاهم الروسي الأميركي، الذي قالت أوساط روسية مطلعة إنه أكبر من توقعات حلفاء واشنطن وما سيسمعونه بالتقسيط من المسؤولين الأميركيين خلال الشهور المقبلة المتبقية من ولاية الرئيس الأميركي باراك اوباما. وبالمختصر المفيد، تكرّس الأسد ركناً إقليمياً دون إعلان صاخب، فهو الشريك الذي لا غنى عنه في الحرب على داعش التي تحتاجها واشنطن أكثر مما تحتاج نظريات الجبير ومبادرات دي ميستورا، الذي يبدو مدعواً لحزم حقائبه بعد جولة فاشلة جديدة في محادثات جنيف!