العروبة المظلومة
خالد المسالمة
في ظلّ ما تعيشه بلادنا من حروب وانقسامات ارتفعت وتيرة الأزمات الفكرية والاجتماعية الموازية لتلك الحروب، وعلت أصوات هنا وهناك تهاجم العروبة والفكر العروبي على شموله جملة وتفصيلاً، وتدعو هذه الأصوات الى إلغاء الهوية العربية والتخلي عنها والخروج من عباءتها والنظر إلى أنّ العروبة إثم وجرم وهوان وتحميلها كلّ المصائب التي نعيشها اليوم، وزيادة في الهجوم على العروبة والهوية العربية لشعوب منطقتنا تدعو تلك الأصوات الى إنكارها والعودة عنها الى هويات فرعية والإصرار على تضخيم هذه الهويات وجعلها بديلاً وسبيل خلاص، وتسوق تلك الأصوات ـ وفي معرض اتهام العروبة بالفشل ـ مبرّرات ليس لها صلة بالحقيقة والواقع.
هل يمكن لعاقل أن يصدّق هجوماً على العروبة باعتبارها هوية مخترعة غير ذات معنى باستدلاله على ذلك بممارسات أحزاب أو أنظمة حكم أو أشخاص نسبوا أنفسهم الى الفكر العروبي؟ أو اعتبار أخطائهم البشرية دليلاً على خطأ هذا الفكر ونسفه ومهاجمة المنادين به؟
هل يمكن أن لا نستسخف رأياً يقول بأن لا وجود ولا معنى للعرب والعروبة والمناداة بها لأنّ نظام حكم هنا عادى أو ارتكب فعلاً بحق بلد شقيق أو جار هناك؟ وهل يمكن الحديث عن مصير فئة صغيرة أو الادّعاء بهوية فرعية داخل الهوية العربية الجامعة دون أن نستهدف بهذا السهم المسموم الموجه للعروبة نفس تلك الهوية الفرعية؟
هل يمكن الركون الى أن تمزق الأمة العربية واحتراب بعض أبنائها وانقسامهم اليوم دليل عدم وجود أمة عربية وهوية عربية، وبرهان نظرية إفلاس الفكر العروبي والمناداة بتبنّي فكر فئوي ضيّق يعود بنا الى زمن الضياع الأكبر ويبشر بتفتيت المفتت وتجزئة المجزأ.
هل يعقل أن ينفي البعض وجود عوامل ومقومات تجمع أبناء الأمة العربية أكثر من المصلحة بقليل، وهل يعقل أن لا يرى البعض شعوب وأبناء البلاد العربية وآمالهم وتطلعاتهم، وأن يجزموا على أن لا جامع بينهم ولا مشترك لمجرد أنّ خلافاً بين أنظمتها منع إظهار هذه المشتركات؟
لماذا تجتمع الأنظمة الرجعية والتابعة مع قوى حاقدة على العروبة علت أصواتها الهجومية عليها في السنوات الأخيرة؟ ولماذا الآن وفي لحظات الضعف والاحتراب والانقسام تظهر هذه الأصوات وكأنها جزء من حرب محمومة على العروبة ومفكريها وقواها، لنلاحظ حملة شيطنة وتخوين وتشنيع وتلفيق الأكاذيب لتشويه العروبة ودعاتها في مقابل ضخّ سموم الانقسام والتفرقة والعودة لعصبيات وهويات مدمّرة لن تقوم للأمة بعدها قائمة.
ألم تمثل اللغة عاملاً أساسياً في تكوين هوية الأمم عبر التاريخ، أين هي الأمة التي تخلت عن لغتها في عصرنا الحاضر، من هي الشعوب التي لم تعتمد لغتها كعامل أساسي في تكوينها وفي التعبير عن هويتها، من هي الجماعة البشرية التي اعتبرت أنّ التواصل والتفكير بين أفرادها وداخل مجتمعاتها بغير لغتها الأمّ هو دليل على اندماجها وتماشيها مع قيم الحداثة والتطور؟
هل يمكن لنا أن ننكر مثلاً تعاطف الأمة الألمانية مع الأفراد من جوارها الناطقين بلغتها، وهل يتخلى الألمان عمن يعرّفون أنفسهم بهويتهم الألمانية؟ وكذلك يفعل الفرنسيون سواء بسواء مع اليابانيين والكوريين والانكليز والاسبان، ألم تعتمد القوى الكبرى خلال مراحل الاستعمار السعي لإلغاء الهويات الأصلية للشعوب المستعمرة بإلغاء لغاتهم، وما من أمة فقدت لغتها الا فقدت قابليتها للحياة. إنّ الهجوم على العروبة وارتفاع الأصوات المشككة والمزوّرة والطاعنة بها قد تكون الدليل الأقوى على صوابية الرؤية العروبية وأنها الهوية الأبقى لشعوب هذه المنطقة وأبنائها، رغم ما يمكن أن يعتريها من ضعف هنا وقصور هناك.
لقد كانت البوصلة التي تدلنا على صوابية خياراتنا وما نتبناه من أفكار ونمارسه من سياسات هي ممارسات وأقوال السيد الأميركي ومن يدورون في فلكه، فلننظر مثلاً الى العراق ولنتذكر كيف تعامل الأميركي مع بلد كان واحداً موحداً بأرضه وشعبه ليكون بعيونهم مكونات لا تستهدف فيها إلا العروبة، فقد وزّعوا المكونات على سنة وشيعة وقوميات كردية وتركمانية وعربية متناسين أنّ العرب شيعة وسنة، وأنّ السنة عرب وكرد وتركمان، فكيف تستوي أمور التقسيم وفق ذلك، هل يحق لدعاة العروبة التساؤل عن هذا؟
الأمة العربية واحدة هذه حقيقة وليست خيالاً ولسنا حالمين ولا عرّافين نبث الخرافات والشعوذات، الحقيقة تقول إنّ الشعور بالانتماء العربي لدى أبناء هذه الأمة هو شعور عام والتعبير الأغلب لدى هؤلاء في التعربف عن أنفسهم إنما هو بالهوية العربية، وانّ الحرب التي نعيشها اليوم والشعور بالضياع والخذلان والضبابية في تحديد الخيارات المستقبلية لنا كدول بكياناتها وتشكيلاتها الحالية تثبت حاجتنا الى استدعاء العروبة هوية وفكراً وممارسة وربما فرصة أخيرة للبقاء.
لا بدّ من الإشارة دوماً الى أنّ فكرة العروبة ليست وليدة مرحلة تاريخية بعينها كما أنها ليست ردّ فعل على حدث أو ممارسة أو تصرف هنا أو هناك، وأنّ العروبة فكرة تجتمع فيها كلّ مقوّمات الكمال فهي جامعة حضارية عادلة تستوعب الجميع، وإنّ أيّ دعوة الى وحدة أو تجمع داخلها هي دعوة محمودة وليست في خصومة معها كما أنّ أيّ دعوة للتوحد خارجها هي دعوة محمودة لا خصومة معها.
لا خلاص ولا عاصم لنا الا العروبة… وهذا فكر يحمله كثير من شباب الأمة بعد شيبها، العروبة التي تحمل العدل والخير والنهضة، العروبة الهوية الجامعة التي لا تظلم أهلها من قوميات أخرى ولا تعادي الآخرين لاختلافهم بالعرق أو الفكر أو الانتماء، العروبة الديمقراطية التي تؤمن بحق التداول السلمي للسلطة، العروبة التي تحافظ على استقلالنا الوطني والقومي، العروبة التي تجدّد نفسها وتنظر بعين منفتحة للعصر وطبيعته ومتطلباته، العروبة التي تجمع ولا تفرّق، العروبة التي تسعى لتنمية مستقلة شاملة يستفيد من خيرها الجميع، العروبة التي تدعم الأحرار وتنشد الحرية والتحرّر، العروبة التي تتبنى العدالة اجتماعية نهجاً وسلوكاً وممارسة، العروبة التي ستوحّد يوماً ما بلداننا العربية في صيغ مبتكرة وقابلة للتحقق والاستدامة.
لا بد ان نلتمس عذراً للمكلومين وأصحاب النكبة التي نعيشها اليوم والتي بدون أدنى شك أثرت وتؤثر عليهم وعلى أحكامهم تجاه العروبة وتحميلها وزر ما نحن فيه، ولهؤلاء لا يوجه كلام ولا يخاطب عندهم عقل لأنّ الغضب في كثير من الأحيان يخفف من سيطرة العقل كما يخفف من قدرته على المحاكمة والتفكير.