اليرزة وحارة حريك.. معمودية شهادة
هتاف دهام
وضع الرئيس العماد إميل لحود قاعدة العلاقة الأساسية بين الجيش والمقاومة العام 1989. أعاد لحود بناء الجيش وفق عقيدة قتالية مختلفة لأول مرة منذ العام 1943. تقوم على أساس إسرائيل هي العدو، والجيش يحمي الوطن بالتصدّي لها على الحدود.
انسجم ذلك مع ازدياد حضور المقاومة في ذلك الوقت وتثبيت دورها في البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة، وصولاً إلى عصر الثلاثية الذهبية الجيش والشعب والمقاومة .
كان الجيش شريكاً أساسياً منذ أن أفشل لحود مؤامرة دخوله إلى جنوب نهر الليطاني العام 1993 . تصدّى لقرار مجلس الوزراء في عهد الرئيسين الراحلين الياس الهراوي ورفيق الحريري بإرسال ألوية عسكرية تؤدّي إلى إعاقة عمل المقاومة وضربه في مرحلة لاحقة. رفض لحود الانصياع لـ مشروع خدام – الحريري لضرب المقاومة. وزار الرئيس الراحل حافظ الأسد وكشف له عملية تواطؤ خفيّ جرت بين بعض القيادات اللبنانية وبعض القيادات السورية المسؤولة عن ملف لبنان حينذاك. ساهمت زيارته السورية بكشف تلك المؤامرة وتمّت حماية المقاومة ووضع علاقتها مع الجيش في نصابها الحقيقي.
خاض الجيش وحزب الله أكثر من معمودية نار ودم وشهادة 1993 – 1996 2000 2006 – 2008 . ما جرى على طريق المطار عشية الاعتراض الشعبي على اتفاقية أوسلو أيلول 1993 ، وإطلاق النار على المتظاهرين، لا يتحمّل الجيش مسؤوليته، إنما القيادة السياسية في ذلك الوقت، فهي التي أعطت الأوامر.
أتت ملحمة الجبل الرفيع في إقليم التفاح، واستشهاد السيد هادي حسن نصرالله والنقيب جواد عازار في المواجهة المشتركة في 13 أيلول العام 1997 ضدّ الاحتلال «الإسرائيلي» لتؤكد التكامل الوجودي.
خاض الرئيس لحود والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله كتفاً إلى كتف عظمة إنجاز تحرير الجنوب العام 2000. بعد التحرير، قام السيد نصرالله بزيارة القصر الجمهوري. استقبله لحود على باب القصر. كانت الزيارة بمثابة تعبير عن عمق العلاقة التي انتقلت مع لحود من اليرزة الى بعبدا واستمرت طوال ولايته الرئاسية ولا تزال.
أتت حرب تموز 2006 لترسّخ المعمودية في العلاقة بين الجيش والمقاومة، وتؤكد تشبّثهما بضرورة تحرير مزارع شبعا ومزارع كفرشوبا. كانت المؤسسة العسكرية شريكاً في التضحيات والشهداء والدم الغزير. نفّذ المقاومون في الجيش وحزب الله عمليات مشتركة في الدفاع عن لبنان في أيام الحرب الثلاثة والثلاثين، ما دفع «إسرائيل» لتنفيذ غارات على ثكنات الفياضية واليرزة، واستهداف المراكز العسكرية على الشاطئ اللبناني وضرب التشكيلات العسكرية الهندسية التابعة للجيش لمدّ الجسور والتحصينات الميدانية، بحجة أنها تقدّم الدعم والمعلومات للمقاومة عن بحرية العدو.
لم تنجح سياسة وزير الدفاع الوطني الياس المر يومذاك المؤيدة لتوجيهات عوكر ودوائر القرار الأميركي أن تؤثر على سلوكيات عناصر الجيش في التنسيق مع المقاومة، حتى قدّموا شهداء وخسائر فادحة جراء دعمهم لها، من دون أن تذكر حكومة الرئيس فؤاد السنيورة هذه التضحيات.
اتخذ الجيش في العام 2008 موقفاً وطنياً. لم يلتزم بأوامر السنيورة ضرب حزب الله. وقف على الحياد في الصراع الداخلي خاصة أنّ المقاومة انتهجت نهجاً سلمياً ولم تلجأ إلى القوة والنار، إلا بعد أن ووجهت بالسلاح من عناصر «تيار المستقبل»، ما اضطرها إلى حسم الموقف بسرعة قياسية وتسليم الشارع للجيش.
خاضت العلاقة بين الجيش والمقاومة اختباراً جديداً مع اندلاع الحرب في سورية. استهدف الإرهابيون الضاحية واليرزة معاً. كما أصابت السيارات المفخخة والعمليات الانتحارية بئر العبد، الرويس، برج البراجنة، بئر حسن قرب السفارة الإيرانية. واستهدف الانتحاريون حواجز الجيش وآلياته في البحصاص والهرمل وغيرهما من البلدات والمناطق اللبنانية.
وقف الجيش على مسافة متساوية بين فريقي 8 آذار. اتخذ حزب الله قراره بالقتال في سورية ضدّ الإرهابيين والابتعاد عن استعمال الساحة اللبنانية ميداناً للصراعات الإقليمية. لم تتصدَّ المؤسسة العسكرية للمقاومة لمنعها من الذهاب إلى سورية، ولم تساعدها في عملياتها تلك. تركت الحسم للقرار السياسي.
أكثر من ذلك، فإنّ التنسيق في مواجهة الإرهاب على السلسلة الشرقية هو في أبهى صوره. التكامل قائم. الجغرافيا مقسّمة بانتظام بينهما. هناك الكثير من الوفاء للإنجازات المشتركة التي قدّماها، من دون أن يلجأ الطرفان إلى العمليات الاستعراضية والبيانات الفضفاضة. تركا للميدان أن يحتضن ما قاما به. التعاون الأمني كبير. كشف الشبكات الإرهابية تدحرج على قدم وساق. الشراكة قائمة بين جهاز أمن المقاومة ومخابرات الجيش. الانسجام مستمرّ بين القيادة والمقاومة. العلاقة مميّزة بين مسؤولي حزب الله والعماد جان قهوجي. كان حزب الله حريصاً على تحييدها عن أية اعتبارات سياسية رئاسية أو غير رئاسية. لا يزال التواصل قائماً على المندرجات نفسها، بغضّ النظر عن أية استحقاقات. ما انعكس تكاملاً على المصلحة الدفاعية اللبنانية بشكل أدّى إلى حماية الحدود وتثبيت اللبنانيين في قراهم في البقاع الشمالي.
بغضّ النظر عن أنّ أول نزاع حول ثلاثية الجيش الشعب المقاومة ، حدث مع الرئيس السابق ميشال سليمان حيث وصفها بـ»الخشبية» في آخر عهده الرئاسي أسوة بمكونات 14 آذار كافة. لم يؤثر الموقف السليماني على سير العمل بين اليرزة والضاحية.
لا تزال «الثلاثية» نافذة. تمثِّل صلب خطاب السيد نصرالله وقيادات الحزب قناعة وممارسة، إلى درجة أنّ سيد المقاومة دعا في إحدى إطلالاته لتعميمها على العلاقة بين الجيوش العربية والمنظمات الأهلية المقاومة كجزء من حلّ في اليمن وسورية والعراق. هذا دليل أنّ التجربة في لبنان بين المكوّنات الثلاثة عميقة إلى درجة أنه اقترحها نموذجاً ليقتدي به الآخرون.
يتعرّض الجيش لضغط قوي، لتبديل عقيدته القتالية الوطنية، بأن تصبح المقاومة عدواً له ويتواجهان. لكنه ثابت بصموده وتمسكه بهذه العقيدة، رغم أنّ السلطة المسيّرة سعودياً تستمرّ بالتضييق عليه. فهناك من يقول إنّ سبب إلغاء هبة المليارات الثلاثة هو عدم استجابة القيادة العسكرية لمواجهة حزب الله.
تدرك المقاومة أنّ تسليح الجيش تسليح أميركي في الدرجة الأولى، وأنّ الرياض وواشنطن لا تريدانه قوياً. تعلم أنّ حدود تسليحه بقيت منضبطة تحت سقف ممنوع تجاوزه قد يستفيد منه الجيش استراتيجياً بتصدّيه للعدو «الإسرائيلي». لذلك بقي دعم الجيش مالياً ولوجستياً منخفض السقف يخضع لخطوط حمراء «إسرائيلية»، سعودية، أميركية، تحت عنوان دور الجيش في محاربة الإرهاب.
لكن هناك من يحلم في الرياض وواشنطن في أن يستخدم الجيش بلحظة معينة ليواجه المقاومة في الداخل. عُمِل على هذا السيناريو بعد 2006 لكنْ قيادتي «اليرزة وحارة حريك» كانتا أقوى وأجدر لتفويت الفرصة أمام المؤامرات وعدم السماح للاعبين فيها بالوصول إلى أهدافهم.