مخيم برج البراجنة… مخيم الحياة كفى ظلماً لأهله من رحم الألم ولد الأمل
ميسم حمزة
عندما يسألك أحدهم عن وُجهتك وتقول مخيم برج البراجنة، تكون الإجابة غالباً، مترافقة مع خوف شديد من هذا المخيم وقاطنيه، كما لو أنك متوجه إلى ساحة حرب وقتال أو بؤرة تحمي الإرهابيين وتصدِّر الإرهاب، الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود.
لكنّ معظم أصحاب هذه التساؤلات والمخاوف، لم يدخلوا ذاك المخيم يوماً، ولم يتعرّفوا إلى أهله، وبالنسبة إلي فإنّ مخيم البرج هو مخيم الحياة، فمن رحم المعاناة والمأساة التي يعيشها أبناء هذا المخيم يولد الأمل، حيث أقيمت المراكز التي تحاول، قدر المستطاع، التخفيف من معاناة هذا الشعب الذي أقلّ ما يقال فيه هو ما قاله القائد الشهيد ياسر عرفات: إنه شعب جبار، يبني من حجارة اليأس والقنوط جدران الأمل، ويخوض بحار استسلام الأنظمة ليحقق الانتصار الآتي لا محالة.
دخلتُ هذا المخيم في جولة ميدانية، وقضيت يوماً لا يمكن وصفه، فكانت مشاعر الفرح والحزن تختلط في داخلي، فتنتابني مشاعر الغضب على الحال التي وصل إليها المخيم بسبب إهمال بعض الجهات الرسمية عندنا، خصوصاً كهرباء لبنان.
وفي الوقت عينه، كنت فرحة وسعيدة بإنجازات هذا الشعب، وحزينة على الواقع المأساوي الذي يعيشه، فقرّرت تجسيد هذه المعاناة ونقل صورة عنها، ليحمل مقالي رسالة إلى المعنيين على أمل أن يستفيق ضميرهم الإنساني الذي ينامُ في سبات عميق.
كيف لا، وأنت تسير على حافة الموت في ذاك المخيم، كما قال أحد الشُبّان الفلسطينيين والذي رافقني في جولتي داخل المخيم، فجدران تلك المخيمات تتحول في فصل الشتاء إلى جدران قاتلة مكهربة بسبب عشوائية أسلاك الكهرباء التي تصنع سقفاً بديلاً عن السماء في جريمة واضحة للعيان في ظلّ غياب التخطيط والمشاريع التي تضعها الدولة والمعنيين، إذ تمتد الخطوط الهوائية من مدخل المخيم لتصل إلى البيوت فلم تمدّ كهرباء لبنان الأعمدة داخل المخيم والعدّادات موجودة على أعمدة خارجه، ناهيك عن أزقة المخيم الضيقة التي لا تصلها الشمس، وأرضه التي لا تجفّ من سيول الصرف الصحي بسبب البنية التحتية المعدومة أو المتخلفة للمخيم والتي لم تعد تكفي أيضاً لهذا المخيم الذي صار يضمّ اليوم ضعف سكانه بسبب النازحين من مخيمات سورية، والإخوة السوريين النازحين من وطنهم بسبب الحرب، إلى جانب معاناة سكان المخيم من سيول الأمطار التي تجتاح منازلهم في فصل الشتاء لكون المجاري الموجودة والتي شقّها المتطوعون لم تعد كافية، ولأنّ الدولة في الأساس وعند إقامة المخيم لم تسمح بتجهيز بنية تحتية صحيحة بحجة أنّ الإقامة فيه موقتة، والمأساة أكبر في الحي المُسمّى جورة التراشحة فالمكان أشبه بجورة فعلاً فهو يقع في الجهة المنخفضة من المخيم وإليه تنحدر مياه المخيم كله، وتصبُّ فيه مياه الأحياء الأخرى، وقد سمِّي هذا الحي بجورة التراشحة لأنّ سكانه ينتمون إلى بلدة ترشيحا في فلسطين المحتلة، فالأحياء في المخيمات الفلسطينية تحمل أسماء البلدات والقرى الفلسطينية التي انحدر منها السكان لتبقى فلسطين حيّة في نفوسهم، رغم الظلم والمعاناة التي يتحمّلها سكان المخيم اللاإنساني بامتياز.
كلّ هذا غيض من فيض ما يعانيه أهالي هذا المخيم، فإنّ دخلتَ في تفاصيل حياتهم اليومية لن تنتهي حكايات الظلم الذي عاشوه ويعيشونه مذ جاءوا إلى لبنان، فالدولة التي كانت قائمة قبل انتفاضة المخيمات عام 1968، كانت تمنع إدخال حجر إلى المخيم، وتُجبر الناس على العيش في غرف الصفيح المستعمل، وتمنع التمديدات المائية والكهربائية والمجاري الصحية. أما الأمم المتحدة فاكتفت ببناء بعض الحمامات لقضاء الحاجة عند أطراف المخيم.
لكنّ شباب المخيم لم يستسلموا وصنعوا الحياة من رحم الموت، فبنوا بعد الانتفاضة مراكز صحية وتعليمية وأصلحوا ما أمكن إصلاحه لتحسين الحال ضمن الإمكانات المُتاحة، بشكل يجعلك تشعر بأنّ الأمل بالغد لا يزال موجوداً في قلوب شباب ينتظرون بفارغ الصبر العودة إلى أرضهم فلسطين، فكان مركز «إنسان»، وملتقى «جفرا»، وجمعية «أمان» الخيريةـ و«دار الشيخوخة النشطة»، مراكز في المخيم تضيء طريق الشباب وتُخفِّف من سوداوية المشهد الذي يعيشونه في المخيم، وقد حاولت هذه المراكز فتح الأبواب من جديد أمامهم بعدما أقفلتها المعاناة، وكلّ ذلك بمبادرة فردية من شباب المخيم من دون مِنّة أو مساعدة من أحد.
مركز «إنسان» في مخيم برج البراجنة، هو مركز مجاني يُعنى بمعالجة الشباب على اختلاف أعمارهم من مرض تعاطي وإدمان المخدرات بدل وضعهم في السجن. ويتبع المركز النظام الداخلي أثناء العلاج، وعلى المدمن المكوث داخل المركز إلى أن يتأّكد الاختصاصيون أنه قد تعافى جسدياً ونفسياً.
تدخل إلى المركز كما لو أنك تدخل إلى نادٍ رياضي، فتشعر براحة نفسية كبيرة، لا سيما في ظلّ وجود الآلات الموسيقية التي تستخدم في العلاج والجو الدافىء الذي يقدم للمريض.
وتسعى «دار الشيخوخة النشطة»، وهي دار للمسنّين، إلى الاستفادة من خبرات كبار السن وتطوير قدراتهم وتحسين حالتهم النفسية والصحية، وتعمل دوماً على التنويع في الأنشطة المقدمة ليشعر المسنّ أنه ما زال على قيد الحياة وأنه ما زال قادراً على العطاء.
أما «ملتقى جفرا» فهو مكان يجمع كافة شرائح وأطياف المجتمع الفلسطيني واللبناني في مخيم البرج.
صدقاً كفى..
لقد آن الأوان لنقول كفى.
آن الأوان لنقول للجميع في لبنان كفى… كفى هذا الظلم بحقّ اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وكفى هذا التجبّر بحقّ هذا الشعب الذي لن يُساوم على وطنه ولا يريد منّا أكثر من حقه في العيش كإنسان.
آن الأوان للإسراع في توفير حياة كريمة للفلسطينيين في لبنان على المستويات كافة، وتأمين الحقوق المدنية والإنسانية لهم، وفي طليعتها حقّ التملك وتنفيذ ما أُقرّ قانوناً لناحية حقّ العمل وتحسين الظروف الاجتماعية والحياتية للمخيمات.
وسنبقى بانتظار أن تقرّ الدولة اللبنانية يوماً ما قانوناً يُظهر بعض الاحترام لحقّ الإنسان في الحياة على أرضها…