المفكر الإنمائي حسن صعب في ذكرى غيابه الـ26: في زمن التكفير… توافُقُ الإسلام والعلمنة روحاً وغاية

محمد درويش

لعلّ أفضل ما يُكتب عن حسن صعب في ذكرى رحيله هو ما كتبه هو. فقد كان معتاداً ان يكتب مذكراته اليومية ليلاً قبل النوم، وفي مقدمة كتبها ليلة غيابه دوّن: «خلقنا لنحيا، الحياة وحدها تستحق أن نكونها، وأنا أريد أن أكون، أريد أن أحيا، أريد أن أتحرك، أريد أن أخلق، أريد أن اذهب إلى تونس، لأحارب من أحارب في «الكسو» ولأسالم من أسالم. وهكذا كان وجودي في هذه المنظمة بعد ان اقتحمت لبنان فيها عام 1985 بعد مقاطعة خمسة عشر عاماً، لماذا فعلت ذلك؟ لأنّ لبنان عربي، بل رائد في منظمة الثقافة العربية».

ذلك هو حسن صعب في ديناميكيته التي لم تهدأ على مدار حياته، هو الأزهري المستنير. الباحث في السياسة دون امتهان واحتراف، الدبلوماسي العامل على شدّ الأواصر في لبنان والعالم، والذي أعطى جزءاً كبيراً من حياته وجهده لندوة الدراسات الإنمائية في هدف سامٍ هو إنماء الإنسان أساس الوطن والمواطنية، وفي ممارسته لعمادة كلية الإعلام والتوثيق كانت ممارسته نظرية وعملية.

حسن صعب العربي الفاهم جدية الترابط بين الهوية اللبنانية والهوية العربية عمل من منطلق هذا الفهم.

ومن إدراكه أهمية التواصل بين الإسلام والمسيحية الذي منح لبنان صفة «الوطن القدوة… المصفّى الإبداعي للوحدة في التنوّع، في التمدّن العربي والتحضر الإنساني» والذي استفاض في الإضاءة عليه في بنائه الفكري «الاسلام وتحديات العصر».

حسن صعب أحد فرسان استنارة زمن الأحلام، في الذكرى السادسة والعشرين لغيابه تقدّم «مؤسسة حسن صعب للدراسات والأبحاث» في هذا البيان بعضاً من تقدير يستحقه هو الحالم والساعي إلى مثالية في إنسان ووطن وأمة.

أيها الكبير في العلم والوطنية ما زال الوطن يئن من وطأة جراح الحروب.

ايها العقلاني المترع برحيق الانماء والمحبة لكل إنسان ولكلّ الإنسان، ما زال إنسان الوطن يزداد عطشاً وجوعاً ويفتش عن مسكن ودواء.

أيها المبشر بالحرية وداعية الاستقلال والوحدة. يا أمام الحكمة، أيها اللبناني الفذّ، أيها العربي المسكون بهاجس المستقبل، أيها المسلم المتنوّر المتفهّم تحديات العصر، إنّ منابر بيروت مشتاقة الى كلماتك المضيئة، وإنّ ندوات الثقافة والهيئات المتعاونة وفية لرسالتك، ولبنانك وعروبتك واسلامك ستبقى هي النبراس وهي البوصلة.

في الإسلام: كتب في كتبه الثلاثة: «إسلام الحرية لا إسلام العبودية» و «الإسلام وتحديات العصر»، و «الإسلام والإنسان» وكأني به يصرخ وبأعلى صوته: بأن توحيد الله، هو تحرير للبشر، من كلّ ما يفرّقهم!! لأنّ الله سبحانه وتعالى، هو المحرّر الأول والآخر، فلما لا يتلازم المفهوم القرآني هذا، من منطلق النظرة التوفيقية، التحاورية، الشمولية بين الديانتين العظيمتين، على أساس أنّ المؤسسة الإسلامية حوارية! بدليل مجادلتها أهل الأديان والفلسفات والإيديولوجيات، بالتي هي أحسن، خصوصاً أنّ رسالة المسيحية والإسلام، غايتها: إيقاظ وعي الإنسانية بالخالق العظيم، المتخلق في نظامية الكون وغائيته، وتحرير الإنسان، تحريراً شاملاً، متسائلاً أفلا لبنان: هو الملتقي الفريد للمسيحية والإسلام والتجسيد الحياتي الخلاق لتلك الرسالة؟

بهذا المنطق الحواري البناء، ألسنا اليوم بحاجة لأمثال الدكتور حسن صعب؟

ولعلّ حسن صعب هو من المفكرين القلائل ليس فقط في لبنان وانما على امتداد العالم الاسلامي قاطبة الذين اكتنهوا بعمق جوهر الحداثة من جهة وجوهر الاسلام من جهة اخرى، وخلص من هذا الفهم الى صياغة موقف فكري لافت في تماسكه وتقدميته.

فالدين، في رأيه، دعوة لا دولة، لان الدعوة دائمة والدولة زائلة. والدين عقائد لا احكام لان العقائد ثابتة والاحكام تتغير بتغير الزمان والمكان، والدين أخوة لا عصبية، لأنّ الأخوة سبيل النجاة والعصبية سبيل الهلاك، والدين إيثارية خلقية لا طائفية انانية ولا مذهبية استغلالية. والدين عبادات، تسمو بالنفوس لا طقوس تستهويها. ان الدين يغير النفس ليرسل فيها الوازع الذاتي، والذي يغنيها عن الوازع الخارجي من قانون او دولة 1 .

في ضوء ذلك كيف فهم مفكرنا دور المسلم المعاصر من دينه؟ وما هي العلاقة التي طرحها بين العلمنة والاسلام؟ لقد كانت الدعوة الى العقلنة والتحديث هي المحور الاساسي في ما كتب وحاضر، ولا يمكننا ان نحيط. في هذه العجالة الصحافية، بكلّ جوانب العمارة الفكرية التي أنجزها في هذا المجال، ولكن حسبنا إيراد بعض منطلقاته:

يؤكد مفكرنا انه يجب على المسلمين القيام بمراجعة فكرية شاملة للإسلام كدين ولتاريخهم ايضاً. وهذه المراجعة الفكرية المنهجية ضرورية لإعادة اكتشاف حقيقة الإسلام من جديد، ولإعطائها حياة جديدة على ضوء معطيات العصر الذي نعيش فيه 2 .

باب التجدّد مفتوح في الإسلام ما دام باب الاجتهاد مفتوحاً. وعلى المسلمين ان يجدّدوا بالعقل والحكمة والتجربة والمصلحة جميع قواعد حياتهم ما دام هذا التجديد لا يتنافى مع ايمانهم بالله وبرسول الله 3 .

موقف الإسلام من الحرية موضح في قوله تعالى لا إكراه في الدين ، وفي المبدأ الأصولي المعروف: الأصل في الأشياء الإباحة. والحرية في الإسلام هي المبدأ الأول والأخير للخلق والكينونة والصيرورة. فالله حرية، والخلق حرية. والإنسان حرية 4 .

انّ الإسلام من خلال القرآن ومن خلال الحديث ترك قضية الدولة وأصولها وتنظيمها وشكلها لإرادة الإنسان. وعليه فالخلافة او الدولة في الاسلام بعد الرسول هي مولود ارادي إنساني صرف 5 .

هذا الفهم المتجدّد للدين انعكس على تصوّر مفكرنا للعلاقة بين العلمنة والإسلام. فهو يفرّق بين العلمانية الملحدة التي ترفض الله، وهي مجال رفض بالنسبة له، ودين العلمنة التي لا تعني الإلحادية بل الحرية الاعتقادية، ايّ انّ علمنة الدولة تجعلها تعتبر الاعتقاد او الإلحاد أمراً شخصياً. وهذه العلمنة يؤيدها الدكتور صعب 6 .

وبالنسبة اليه ايضاً تبدو العلمنة بمعناها الإنساني العام اقرب ما تكون الى العقلنة. فلا تتعلق حينئذ بمعضلة تاريخية مؤسسية تجلت في المجتمع الغربي وفي المجتمع المسيحي اكثر مما تجلت في ايّ مجتمع آخر، وهي معضلة العلاقة بين الدولة والكنيسة، ولكنها تتجاوزها الى العلاقة بين العقل والدين، وبين العقل والدولة، والى ماهية دور العقل او دور الإنسان في تنظيم حياته السياسية بصورة خاصة وحياته الاجتماعية بصورة عامة 7 .

وهو يشدّد دائماً على انّ النزعة الى العقلنة والعلمنة كالنزعة الى التديّن لا يمكن ان تكون نزعة غربية او شرقية بل هي نزعة إنسانية 8 . وانّ علمنة الدولة هي عقلنة الحكم وتأنيسه أقوم مستوى ممكن من العدل بين جميع المواطنين. والعدل هو الروح الاسلامي وهو غاية الشرع الإلهي. ولذلك لا يمكن الا أن يتوافق الاسلام والعلمنة من حيث الروح والغاية 9 . وإنّ علمنة الحكم هي تحريره وتحويله من حكم الاكراه والمنافقة الى حكم الحوار والمواثقة. واذا تذكرنا انّ الاسلام هو دين الإقناع لا الإكراه، وانه دين التناصح لا التنافق أدركنا مدى توافق روحه مع روح العلمانية غير الإلحادية 10 .

وعلى صعيد مسألة السيادة الشعبية يرى علّامتنا انّ محور الالتقاء بين سيادة الشعب في الحكم الإسلامي والحكم الحديث هو في حق الاجتهاد في الحكم الإسلامي وحق التشريع في الحكم الحديث، وتعني سيادة الشعب او ما تعني بمفهومها الإسلامي حقه في الاجتهاد حول نظام الحكم الاصلح له كما تعني بمفهومها الحديث حقه في اختيار هذا النظام وفي التشريع له. وهكذا فمن حق الجماعة ان ترى في النصف الأخير من القرن العشرين، في علمنة الدولة، او في الديمقراطية العلمانية متجسّد العدل 11 .

لا يكتفي الدكتور صعب بهذا الطرح العام وإنما ينتقل الى وضع لبنان فيؤكد أنّ علمنة الدولة في مجتمع تعدّدي كلبنان هو فرض تقدّمي ووطني ان لم يكن فرضاً دينياً إسلامياً ومسيحياً لتحقيق مستوى التقدّم الواحد لجميع المواطنين ولتحقيق المساواة التامة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين. ثم إنّ علمنة الدولة تعني اول ما تعني إلغاء ايّ شكل من أشكال التمييز بين جميع المواطنين اللبنانيين باسم الدين او بحكم الطائفة وتحويل لبنان من حكم الطوائف الى حكم الشعب. وتصيير الالتزام تجاه الطائفة التزاماً تجاه المواطن، أيّ تطوير نظام الحكم من ديمقراطية اسمية الى ديمقراطية حقيقية 12 .

– اما لبنانياً: فردم الدكتور حسن صعب الهوة بين الفكر السياسي والحياة السياسية، وشرح البعد الوظيفي لعلاقة الحاكم بالمحكوم، الذي لا يقوم سوى: على أساس الثقة والاحترام، والتكافل والتضامن، ملخصاً علم السياسة اللبنانية، بأربع كلمات هي: «موضوعه القدرة، وغايته الحرية»! فكم نحن بحاجة اليوم إليك.

– في العروبة والعرب وثقافة العرب، كتب: «العرب يُبدعون مستقبلهم» ونظرة جديدة إلى الاتحاد العربي» و «الإنسان العربي، وتحدّي الثورة العلمية والتكنولوجية» و «تحديث العقل العربي».

– في الثقافة والإعلام: دعا د. حسن صعب. إلى التواصل بين مختلف الثقافات، مع المحافظة على الاستقلال، والتكافؤ بينها، وآمن بأن أمتنا العربية، هي أمة الثقافة، وحدّد مصير ثقافتنا العربية، بأنه هو مصير أمتنا العربية، كما لفت إلى ضرورة اصطناع سياسة إعلامية ثقافية، تستند: إلى استراتيجية تخطيطية، تنشيطية، تقضي على التخلف، وتُنمي الإبداع الثقافي، الذي هو حق كل إنسان وإمكان كل إنسان بالقوة، حتى نُؤهله لإنجازه بالفعل، وهكذا كان توّاقاً إلى إرساء قواعد التلازم بين الاعلام والثقافة.

– كرجل حوار: كانت كتابات الدكتور حسن صعب:

فدعا إلى الحوار وحاور في شؤون الإنماء، وشؤون الدين الإسلامي، كما في الحقائق المشتركة بين الاسلام والمسيحية، بصورة شفافة وصادقة. والحوار عنده، هو سعي وراء حقيقة، قد نكتشفها عند الغير، أو نكتشفها معاً، في مسعانا المشترك المتضامن، المتساند!

– في الحرية: كان الدكتور حسن صعب يصرخ: «هويتي هي حريتي» وأيّ حوار ممكن من دون حرية؟؟ نعم هويتي في حريتي، لأنّ هويتي في كينونتي، وصيرورتي الإنسانية، وحريتي هي في إنسانيتي!

وهنا نصرخ عن الدكتور صعب، كم نحن بحاجة إليك اليوم! وهو القائل: «لبنان المنُعكس الحر، والباهر للوحدة، في التنوع بين البشر، سيكون كوننا المفضل، كون الحب والإبداع والسلام!»

– في السياسة: السياسة بالنسبة للدكتور حسن صعب، هي أسس النشاطات البشرية، التي من خلالها يحقق الإنسان ذاته، ووجوده، لذا فهي أنبل الوظائف الإنسانية السياسية هي: تساؤل العقل عن الحياة الفضلى، والمدينة الفاضلة، والقانون العادل، والنظام الحق، والحاكم الصالح، والإنسان الحر. إنه كعالم سياسي، يعتقد أن تحسين الحكم، رهن بفقه السياسة، أيّ بفهم حقيقتها، وقوانينها وحركياتها، فهماً مستقيماً!! إذ إن دارسي السياسة، هم: أشدّ الدارسين، اتصالاً بحياة المجتمع ومصيره، وبحياة الإنسان ومصيره!! إنهم مهندسون اجتماعيون، يتوقون بجهدهم العلمي المنهجي، وتفكيرهم السياسي، واختيارهم الحياتي، للاهتداء، بهندسة للمجتمع، تكفل: أن يعيش الإنسان فيه حراً وسعيداً. أما موطن الخطأ الرئيسي في نظرتنا للسياسة، هي: أننا اعتبرناها حتى الآن، نشاطاً سلطوياً محوره: الحاكم والنظرة الصحيحة إليها، هي: أنها نشاط إنساني، لنشاطات الإنسانية، وحيث لا تكون هذه العلاقة، لا تكون سياسة، ولا تكون دولة، ولا يكون علم سياسة!

– في الاقتصاد السياسي: كان الدكتور صعب أول من قارب الاقتصاد والسياسة، وها نحن اليوم، نرى أنّ الاقتصاد ليس جزءاً من السياسة، بل صنوان، يؤثران ومتأثران، كل منهما بالآخر!! فهل استشف الدكتور الراحل بحسه المرهف مستقبل وطنه الذي أحبه؟ وأين هو الآن، ليلهمنا اليوم؟؟

نعم لقد كان حسن صعب، رجل الإنماء الرقم واحد في لبنان، فمن فكره انبثقت: أسمى أفكار الإنماء، ومن مخيلته انطلقت: أعظم مشروعات الإنماء، وفي كتبه: درس طلابه الإنماء، ومن ندوته: «ندوة الدراسات الإنمائية»: تخرّج رواد الإنماء!! فالإنسان هو القيمة، وهو الأداة، وهو الغاية! منه تنطلق الرؤى، وبه يتم النماء، وإليه يهدف التطور! والتطور ما هو في المطاف الإنمائي الأخير، الذي يرتقي أعلى درجات التقدم، إلا: تحرر تام، وانعتاق رائع!

الإنماء: علم وممارسة، وسيلة إنسانية، لإغناء حياة الإنسان: مادياً وروحياً، وتحسين ظروفها وتحقيق رفاهها، ودعم إبداعها! هي وسيلة: مستقبلية المنظور، قيمية المعايير، ديناميكية المنهج، لا يحد آفاقها، إلا قدرات الإنسان الموضوعية التي سعى حسن صعب، إلى تفعيلها وتفجيرها بناءً على قناعته: بأن مدينة الغد الكونية التي يتوق اليها كلّ باحث إنمائي، وكلّ مفكر تطويري، إنما هي: مدينة حقوق الإنسان، فيها يُضحّي الإنماء الحقيقي، مقترناً بالتحرر الحقيقي، وفيها يتأنسن الإنسان، بقدر ما يتحرّر، وفيها يدفع الإنماء الإنسان قدماً نحو «كماله» الذاتي المنشود!

وفي الختام يكفينا فخراً أنك أسهمت في تربية أجيال، وأغنيت الفكر العربي بثمرات ستبقى ذخراً لكلّ راغب في خدمة مجتمعه.

بمناسبة الذكرى الـ 26 لرحيل الدكتور حسن صعب 1990 – 2016

مدير مؤسسة حسن صعب للدراسات والأبحاث

الهوامش:

1 – من مداخلة للدكتور حسن صعب في الحركة الثقافية «الثقافة والدين والسياسة واعادة بناء لبنان»، منشورات الحركة الثقافية انطلياس، 1985، ص 154.

2 – د. حسن صعب، الاسلام وتحديات العصر، دار العلم للملايين، بيروت، 1971، ص 222.

3 – حول العلمانية، محاضرة د. حسن صعب «المحاولات العلمانية في الدول الاسلامية المعاصرة»، الكسليك، 1969، ص 35.

4 – توافق الاسلام مع علمنة الدولة، لسان الحال 20 حزيران 1971.

5 – د. حسن صعب، الاسلام وتحديات العصر، المرجع السابق، ص 258.

6 – حول العلمانية، المرجع السابق، ص 23.

7 – لسان الحال، المرجع السابق.

8 – حول العلمانية، المرجع السابق، ص 10.

9 – المرجع السابق، ص 13.

10 – لسان الحال، المرجع السابق.

11 – المرجع نفسه.

12 – د. حسن صعب، الاسلام وتحديات العصر المرجع السابق،

ص 216.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى