حبّ جمع الأم والأب كأنّه من زمن سينما الأبيض والأسود
دمشق ـ كوثر دحدل
«إلى آخر الزمان منصور وهند حب في مشوار حياة» عنوان رواية ذاتية كتبتها الدكتورة ريم منصور الأطرش على شكل ذكريات شخصية واقعية تجمع بين الجانب التوثيقي للسيرة الذاتية والعمل الأدبي. وتشير الأطرش في مقدمة الرواية إلى قصة الحب النادرة التي جمعت والديها، معتبرة أنها عبرة لمن ما زال يؤمن بالحب وأهميته في الحياة عامة وفي الحياة المشتركة خاصة، من دون الالتفات إلى الفروق.
قسمت الأطرش روايتها إلى أربعة عشر فصلاً، رمزاً لعدد سنوات الحب العذري الذي جمع بين والديها قبل الارتباط الأبدي، والفصول متفاوتة في عدد الصفحات استخدمت فيها طريقة الخطف خلفاً وزاوجت بين الماضي والحاضر، أو بالعكس، لكنها التزمت خلالها التسلسل التاريخي للحوادث، وربطت هذه الأفكار بصور من أرشيف العائلة ومن أرشيفها الشخصي، من غير أن تخفي تأثرها برواية اسطنبول للكاتب التركي أروهان باموك الحائز جائزة نوبل للآداب.
تستهلّ الكاتبة روايتها بالفصلين الأول «ولادتي وطفولتي المبكرة» والثاني «في المدرسة» وتتحدث فيهما عن ولادتها في هذه البيئة، وعائلتها الصغيرة، وحوادث تاريخية موثقة حول ارتباط بعض الاشخاص بالعائلة، واصفة الحالة الروحية التي ربطتها بمدرستها اللاييك وأصدقاء الطفولة الذين كانوا ذخراً للمستقبل، والمدرسين والمربين الذين تميزوا في طريقة تعليمهم.
في الفصلين الثالث والرابع تسرد رحلة حياة والديها، بدءاً بأمها المثقفة التي تحمل ديبلوم دراسات عليا في التربية وعلم النفس، ومسيرتها في التعليم، ومعاناتها في الحياة، في مرحلة زمنية متقلبة، وقدرتها على الصبر والتحمل والتكيف مع الواقع لحماية عائلتها، وعملها على تربية أولادها تربية صحيحة، بالإضافة إلى علاقتها المميزة بأمها. وتكتب في رثاء والدها: «علمتنا حب الوطن الكبير والإيمان بالأمة العربية ورسالتها الخالدة وكان بيتنا وما زال يعيش شعار الثورة السورية الكبرى «الدين لله والوطن للجميع» … » راوية معاناته في السجون أيام الانقلابات السياسية في سورية ومعاناة العائلة معه، لافتة إلى أن والدها علمها تقديس العلم والمعرفة والسعي للثقافة.
الفصل الخامس حول بيروت وتصف المدينة «دلوعة العرب» قائلة: «دمشق عشقي، وبيروت حبي، عشت فيها فترة من الزمن وضمت ذكريات غالية على قلبي، والطريق إليها كان يغمر قلبي بفرح عارم». وفي هذا الفصل توثق لمراحل تاريخية عبر العائلة ولقاءاتها وأصدقائها وأقاربها.
في الفصول السادس والسابع والثامن بيت الميدان والتاسع والعاشر تكتب عن محبتها واعتزازها بجديها ووتصف جدتها لأمها، سمية، ووقوفها إلى جانب ابنتها، وارتباطها بذهنها بالمحبة والبساطة واللطف وثقافتها، أما جدها سلطان باشا الأطرش فتصفه بجد الجميع الذي لم تتعرف إليه ألا في التاسعة من عمرها بسبب الظروف الاجتماعية لزواج والديها، لكنها شعرت بمحبته واحتضانه لها، ورسخفي ذاكرتها هذا الرجل العظيم الذي قاد الثورة ضد الفرنسيين حتى نالت سورية استقلالها، وتسرد في هذا الفصل وقائع من الحرب ضد الاستعمار وبطولات الثوار التي سمعتها على لسان جدها ولسان الشاعر زيد الأطرش، واصفة ارتباطه بالأرض وحبه لها وعمله فيها.
تتحدث كذلك عن بيت جدها لأهل أمها في الميدان، وجمال هذا البيت العربي الذي لمّ شمل عائلة كبيرة وأمضت فيه أوقاتاً من المرح وسهرات جميلة، والعبر التي كانت تخرج بها من هذا المنزل، أما بيت القريا، بيت الجد سلطان باشا، فكانت الذكريات فيه حول الثورة، وفي هذا البيت كان عيد الجلاء عيد الأعياد، لافتة إلى صداقاتها التي حافظت عليها منذ الصغر، وعملها في مكتبة الأسد الوطنية وإفادتها من هذا العمل الذي حفزها على البدء بمرحلة ثقافية فكرية جديدة، هي الترجمة، ثم اهتمامها بتنظيم أوراق والدها بعد وفاته بناء على وصيته، فأنجزت سيرته الذاتية تحت عنوان «الجيل المدان». وفي بيروت نشرت بعد عامين أيضاً في «سبيل العراق» ومجموعة مقالات، لكنها ما زالت تحقق أوراقه لإصدارها، وبينها روايتها هذه، بناء على وصية أمها بكتابة قصة حبهما.
الفصل الحادي عشر تتناول فيه أهمية طريق الحرير التي تنبع من ربط العالم ثقافياً واقتصادياً من أهم المدن السورية على الطريق، تدمر وحلب وانطاكيا واسكندرونة ودمشق، مشيرة إلى أن لفائف الحرير كانت تستخدم كالنقد في التبادل الرسمي مع الصين، وأن سورية تميزت بصناعة الحرير، ما فتح أعين الغرب وفرنسا تحديداً للاستيلاء على الإنتاج السوري من الشرانق بأبخس الأثمان، وتحقق ذلك عبر فتنة 1860 عندما تآمر الغرب مع السلطة العثمانية لافتعال المذابح ضد مسيحيي سورية بغية تهجيرهم، وكانوا ممسكين بصناعة الحرير وتجارته.
الفصول الثلاثة الأخيرة حول مراحل دراستها في جامعة دمشق ومساعدتها لزملائها ونشاطاتها عبر الجامعة وسفرها إلى باريس بمنحة في السنة الثالثة ثم حصولها على ديبلوم الترجمة واللسانيات ثم الماجستير حول «دور الترجمة أو العودة إلى اللغة الأم في تعليم اللغات الحية» ثم الدكتوراه من جامعة النور في مدينة ليون الفرنسية عام 2003 عن «تحليل الأخطاء في الترجمة باللغتين الفرنسية والعربية لدى المتعلمين الناطقين بهما»، راوية مسيرتها في العمل لدى عودتها إلى سورية والأماكن التي عملت فيها. وفي الفصل الختامي للرواية تتطرّق إلى مراحل الحب والزواج والمعاناة من المجتمع المحيط التي تعرّض لها والداها لتقول أخيراً: «آمنت بالحب الذي جمع أمي وأبي وكنت أظنه من زمن سينما الأبيض والأسود».