أنسي الحاج… الشاعر المسكون بفكرة التجدّد
كتب عبدالكريم كاظم: تتكشف حداثوية أنسي الحاج في وجوهها المتعددّة، فانتصار قصيدة النثر هو في تجديد الأسئلة لا في الظفر بإجابات منتصرة. كان الشاعر يعيد ترتيب المعاني بإرادة جمالية مغايرة، ولتصبح إرادة الجمال هي الشكل الذي يكوّن النص الشعري ويتكوّن الشاعر فيه، فلا إخفاق ينتظر المعنى في منتصف النص، فإن كسا المعنى شيء من النص، كان النص لوناً من ألوان جمالية اللغة، ولأن اللغة نفسها تعيد الاتزان إلى ما اضطرب من المعنى.
يتكوّن النص الشعري الذي يكتبه أنسي الحاج في المستقبل، ويتكوّن المستقبل في زمن آت يضمن تحقق النص، أي يضمن تحقق المستقبل في المستقبل الذي لم نصل إليه بعد. يبدو النص خطوات من الجمل المتلاحقة طالما أن سير النص هو سير المستقبل الذي يحايثه، إن هذا التصوّر النقدي هو الذي يجعل النثر يستقر مطمئناً في كتابات ومقالات ونصوص أنسي الحاج المتنوعة، وذلك في صيغة مستقبلية أيضاً حدّاها الصدق والموقف من المعنى إذن نصر الشاعر المعنى الجمالي أو الشعري المغاير الذي استنصره.
كان الشاعر في الدلالة الحياة قبل أن يمتصّه المعنى الموت الذي اختاره، مرتاحاً إلى فكرة النص القادم. كانت نصوصه الشعرية مزيجاً من براءة الناثر ونبل الموقف الشعري والأخلاقي والمعرفي، وكان شاعراً من نوع مختلف، فهو حداثوي وإيماني ومستقبلي ومؤمن بالحرف الذي يكتبه، ومؤمن بأن اللفظ هو وسيلة التغيير والتعبير، ومؤمن بأن نصه يرى الآتي في ماضي الأيام الآتية حتى وإن حط الضباب على العين أكثر من مرّة. كان أنسي هذا كله وشيئاً آخر: كان يرى نفسه مسؤولاً عن المعنى الجمالي الذي هو ضرورة حياتية وشعرية وشرط لازم لا يكتمل الشاعر المغاير إلاّ به، وكان أنسي شاعراً كونيّاً أيضاً.
أنسي الحاج المسكون بفكرة التجدد، كان، على عادته، خارج المألوف، شاعراً قبل أن يكون رائياً، ورائياً بعدما أصبح شاعراً. وإذا كانت حساسيته الشعرية ترد إلى حس رهيف بضرورة التجدد، فإنها تستدعي، في اللحظة ذاتها، تصوّره للكتابة والحياة والجمال، حيث الحياة معنى وحيث الكتابة فعل تحويلي لا يكون الجمال إلاّ به، فالكتابة هي ما تترجم حركة الجمال في الحياة.
وضع الشاعر بتأنٍ كبير النص الجديد على منضدة التجريب دوماً، عازلاً الكلام عن أشباه الكلام والمعنى الجمالي عن أشلاء المعنى الغائم، وفاصلاً بين «النثر» وغبار متناثر توهم شكله «نثراً» في زمن قوامه غبار. وكان في ما يكتب يتعسف أحياناً، ممارساً استراتيجية جمالية ولغوية وفنية أدمن عليها، تخلط المعنى الجمالي أو الجمال نفسه بقليل من العسف كي يولد النص واضحاً في انتسابه كما لو كان يقول: إن التخلص من ثمرة «لغة» فاسدة يستلزم التخلص من الغصن «النقد» الذي يحملها حتى لو كان أكاديمياً . كان هناك، دائماً، في الكتابة الشعرية، ذلك الحد اللانهائي الذي أخذه أنسي من نقاء المعنى وبياض الكلمة وفنية اللغة.
كان أنسي الحاج شاعراً يهرب من الشكل الشعري التقليدي إلى الصورة الشعرية المختلفة التي تهدم المنطق وتنفتح على فضاء لفظي لا نهاية له، وكان في ما يكتب يحتضن العالم كله، فيضع النص الجديد في زمن والتأمل فيه في زمن آخر، ليجمع الزمنين ويجتمعان فيه. هذا هو الشاعر الذي يؤانس على منضدته أزمنة أو تجارب متعددة، كأن البحث عن المعنى للنهار والتأمل في اللغة الشعرية لليل وما بين البحث في النهار والتأمل في الليل حوار يتنافس فيه زمن آخر مجهول. وهكذا يبقى المعنى الجمالي هو شعرية الشعر عند أنسي الحاج، له أرض الكلام وبه كينونة الصوغ اللغويّ والفنيّ، الرمزيّ والزمنيّ.
الشاعر لا يحوّل النظر في كلماته بل يسيّر إليها، الشاعر الذي لا يستعير حبره من أقلام الآخرين، الذي يكتب نصه ويكسر حصار الرؤية، الذي يقع فريسة الحيرة ولا يُزوّر المعنى، الذي لا ينجو من اغتياب المتشاعرين ولا يُترجم دلالاته إلى عقائد أو شعارات، الشاعر الذي يمد لغته في اتجاه عالم واسع، يخلخل الأسيجة ويُرمم تضاريس وجه القصيدة، الذي يترك الحياة نهباً لبداوات جامحة وأخوانيات منافقة وراعشة، الذي يحسب الإساءة للنص والجمال والكون نوعاً من شحذ أظافر المتشاعرين على صخرة عنفوانه. هذا الشاعر: لم يكن له بدٌّ من أنْ يحسَّ بأن الحضارة تكاد تختنق في بعض عنفّها ولم يكن ليفوته أن القصيدة تُعتصر قطرة قطرة وتتصبّب نقطة نقطة لكي يعاد تكوينها في ذهن العالم، الشاعر الذي لم يتأخر في الحضور مع النص لكنّه تعجّل في الذهاب مع المعنى، أقول: تعجَّل، لا لشيء إلاّ لأنه كان ينبغي أن يتباطأ مع اللغة ليعلم المتشاعرين كيف يقتربون من النص ـ المعنى اقتراباً روحياً، ولكي يعرف المتشاعرون الآن وغداً، سبل التعاطي مع الحرف والمفردة والمعنى والرمز والعبارة، الشاعر الذي يتمتع بمخيلة هائلة، المحوط بالأسرار، والذي لا يدرك النقاد من نصه إلاّ القليل، يغوص في الشعر حتى الغرق ويطفو به حتى التحليق، أحياناً يتأنق وأحياناً يتخلى عن كل هندام، يُكيّف ذاته على غير قياس مألوف، مزداناً بالحكمة والضحكة والقول الطريف، أنّه يتوحد ويستوحد في الحياة أو النص. يتقن الكلام، لا بواسطة الكلمة فحسب إنما بالإشارة. له أرض الكلام وبه كينونة الصوغ، يحرّر المعنى من كل ما يخنق القول، أن الجمالية تستقيم في نصوص أنسي الحاج معنى يعبر حدود الانتماءات الضيقة، يصون العبارة ويقيم شعرية النقيض، ينام على مقربة من خزانته السحرية: خزانة الخيال، إنه بكلمة واحدة، أزلي.
من خلال قراءاتي لنصوصه لن، الرأس المقطوع، ماضي الأيام الآتية، ماذا صنعت بالذهب/ماذا فعلت بالوردة، الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع، الوليمة، كتاب خواتم في جزءين، كتاب مقالات، كلمات كلمات كلمات/ثلاثة أجزاء إضافة لكتاباته الصحافية المتنوعة وترجماته تأكدت لي عدة استنتاجات نقدية هي: بالتجريب يخطو الشاعر إلى المعنى المغاير، وبالصدق وحده يستطيع الشاعر أن يحوّل فحم حياته اليومية إلى ألماس، والشاعر الحق لا يدخل في ظلّ أحد، لأن من يحترق وحده يكون دائماً مصدر الضوء. صنعة الشعر لدى أنسي الحاج صنعتان، صنعة لإطلاق الخيال وصنعة لإخفاء كل أثرٍ للصنعة، أي أن النص الشعري هو الشكل المرئي واللامرئي من المضمون الموازي للغة، ولهذه الأخيرة أكثر من دلالة. في نصوصه، أيضاً، يقاس كل شيء بالجمال المتصل بالفكرة واللغة. هذه الاستنتاجات النقدية للنصوص تجلّت في استحضار المعاني مع الدلالات ومع تجربة الشاعر الممثلة في رحلة الشعر التي عاشها، فهي، أعني التجربة، على مستوى النص تلاقي الذات في شكل جدلي تتصارع على مستواه الأفكار والقيم والتجارب بمختلف مضامينها الجمالية والفنية واللغوية المغايرة، فيصبح النص تشكيلاً فنياً كثيفاً يتجه نحو المعنى فتحضر الدلالة لكونها تجسيداً لواقع لغوي ـ شعري محسوس، ولذلك كان النص نموذجاً يعتمد على حضور التجربة وتوحدها بالذات الشاعرة أو الكتابة الشعرية، بحيث يخلق التكامل الفني الذي يجسد اكتشاف الجديد من خلال دلالة اللغة وأبعادها ورموزها.
يستخدم أنسي الحاج أسلوباً أكثر تكاملاً في نموه بحيث يجمع بين الجمالي والتأمل الفكري عندما يستند المعنى إلى فنية الرؤيا، فينشد لذة اللفظ وغرابة الجملة، ومن هذا التداخل الفني أيضاً يستدعي الشاعر لغته ليكتب التقاطاته التي تتأسس في النص بطريقة لا تتكشف للقارئ إلاّ بإدراك أبعادها فيقوم النص بتوحيد عناصرها واكتشاف انفعالاتها. أنسي الحاج شاعر حقاً زاخر الخيال، يفكر في الصور الشعرية البليغة بخطوطها ودلالاتها وفنيتها، وفي ألفاظه وجمله وتعابيره اكتنازٌ وعناية وجسارة في المجاز وبصيرة شعرية ثاقبة نبوئية، وللنص الشعري لديه مداه، ووعيه المخزون في التجربة، وأعني وعيه المعرفي والشعري المتحرر من الأعراف اللغوية التقليدية والمستهلكة.
إذا كانت النصوص الشعرية انعكاساً صادقاً لأسلوب الشاعر وحياته وفكره ورؤاه في الكتابة فهذه هي مجتمعة تنطبق تماماً على مسار شاعرنا أنسي، وعلى قاموسه الشعري وما يحمله من مفردات وجمل وعبارات. شاعر بأهمية أنسي هو شاعر مغاير، أوّلاً لأنه لم يكرّر ذاته في ما أنتج من نصوص ومقالات، وثانياً يتقن كتابة المعنى الجمالي. كتب نصوصه عبر الاحتكاك باللغة المغايرة لا عبر استعارة الشكل الزخرفي للنثر العربي وإعادة صوغ في حكايات أو كتابات ومقالات لا قيمة لها.
إن فهم حقيقة الموت ليس بالأمر السهل. قد لا يكون في إمكاننا تقبلها كما لو أنها صيغت قسراً، لكن نبرة الحياة التي تغلف كل كلمة من كلمات الشاعر الحقيقي تبعث فينا إحساسات إضافية لتلبغ مداركنا وأسئلتنا وحيرتنا أمام هذه الحقيقة.
هكذا غاب أنسي الحاج، وحفر غيابه إلى الأبد في ذاكرة الشعر ذكرى شخصيته الشعرية الإنسانية المدهشة، وقد حدد، كما يبدو لي كقارئ، إلى حد كبير التأثير الشعري والمعرفي الذي تركه. أجرى خياره بين الحياة والموت بحرية تامة، وإذا كان على يقين من أن حقيقة الموت التي لا تتفق مع الحياة سوف تنتصر عاجلاً أم آجلاً فإنه تنبأ في البعض من نصوصه موتاً هو أقرب ما يمكن إلى الحياة حين قال في قصيدته «أخافُ أن أعرف»: «تُدلّلُك أحلام القلق وتغدر بك» و»الويل لك من اليقين» وبهذا الشكل فإن كلاً منهما وأعني، الغدر ـ اليقين، يصيبه الأذى، فكلاهما قائم في الحياة والموت.